الأزهر يقطع مع مصطلح "أهل الذمة" ويستبدله بالمواطنة

الخطوة تفتح الباب للمطالبة بإصلاحات منهجية موازية لتجديد الخطاب من داخل المؤسسة الدينية.
الثلاثاء 2020/12/29
التعايش بين مختلف الديانات حتمي

جريدة “صوت الأزهر” الناطقة باسم المؤسسة الدينية الكبرى في مصر تنشر تصريحات للدكتور أحمد الطيب يطالب فيها بعدم استخدام مصطلح “أهل الذمة” مرة أخرى في الحديث عن غير المسلمين، وبدا ذلك بمثابة رسالة متسامحة تجاه جميع الأديان في المجتمعات العربية والإسلامية.

استغلت مؤسسة الأزهر أعياد الميلاد المجيد لتطرح خطابا جديدا لم يسبق أن طرحته من قبل، وبدا بمثابة رسالة متسامحة تجاه غير المسلمين في المجتمعات العربية، فقد نشرت جريدة “صوت الأزهر” الناطقة باسم المؤسسة الدينية الكبرى في مصر قبل أيام تصريحات للدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، طالب فيها بعدم استخدام مصطلح “أهل الذمة” مرة أخرى في الحديث عن غير المسلمين، في مصر والدول الإسلامية.

 وقال الطيب، إنه لا محل ولا مجال لأن يطلق على المسيحيين الآن مصطلح أهل الذمة، ولا بدّ من استبداله بكلمة المواطنة التي تكفل الحقوق والواجبات للجميع بشكل متساو، موضحا أن هذا المفهوم مثل “الجزية”، كان لهما سياقات تاريخية، انتهت تماما الآن.

واعتبر البعض من الخبراء والمتخصصين في الفلسفة الإسلامية، تصريحات شيخ الأزهر معبرة عن سياق جديد تحاول به المؤسسة الدينية العريقة بعث إشارة ذات دلالة أو تعبيد الطريق للبدء في مشروع شامل لتجديد الخطاب من داخل المؤسسة، بعد تعثره لسنوات طويلة.

وأكد الدكتور عصمت نصّار أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة بني سويف، جنوب القاهرة، أن تصريحات شيخ الأزهر تمثل خطوة جيدة في مجال تجديد الخطاب الديني، لأن هناك مصطلحات فقهية عديدة مدلولها السلبي أوسع من الإيجابي ولم يعد لها وجود حقيقي في الحياة المعاصرة.

عصمت نصّار: من المهم نبذ فكرة تكفير غير المسلمين بين بعض علماء الدين
عصمت نصّار: من المهم نبذ فكرة تكفير غير المسلمين بين بعض علماء الدين

وقال في تصريح لـ”العرب”، إن كلمة أهل الذمة ترتبط بالفقه القديم، وما يعرف بالسياسة الشرعية، بخلاف كلمة المواطنة التي تتسق مع الفهم الآني المعاصر للسياسة.

وارتبط مصطلح “أهل الذمة” في بعض العصور بممارسات سيئة تجاه غير المسلمين في المجتمعات الإسلامية، مثلما هو الشأن في عهد الدولة العثمانية وما ساد حينها من تمييز متعمّد ضدّ المسيحيين واليهود، عبر إلزامهم بارتداء ملابس معيّنة أو العبور من شوارع بعينها، وهو ما ظل سائدا حتى عصر السلطان العثماني محمود الثاني (1785ــ 1839) الذي خفف الكثير من التعاملات المسيئة المقرونة بمَن يعرفون بـ”أهل الذمة”.

وأضاف نصّار، أن المصطلح ذاته استخدم في سياق اقتصادي خاص بترتيب الضرائب المفروضة على غير المسلمين، تحت مسمى الجزية في العصور الأولى، مقابل عدم مشاركتهم في الحرب، وهي قضية حسمت فهما، ولا مبرر لعودتها في ظل الشكل الحديث للدولة العصرية التي يجب أن يتمتع فيها الجميع بحقوق متساوية.

وتترتب على تنحية هذا المصطلح أمور عدة، منها عدم وصاية وزارة الأوقاف على بعض المنشآت الدينية، والالتزام التام بخضوع جميع المواطنين باختلاف دياناتهم للقانون العام. ومن المهمّ أن يمتدّ الأمر إلى التوسع في الطرح وكسر الأنماط الفكرية الأقرب للتعصب، التي ما زالت مشمولة في جوانب من الخطاب العام لبعض المؤسسات الدينية.

وأوضح نصّار، أنه من المهم نبذ فكرة تكفير غير المسلمين الشائعة بين بعض علماء الدين، فالمسيحيون واليهود والصابئة كما ذكر القرآن الكريم، ليسوا كفارا، ولا يصح تداول ما يعتبرهم كذلك، وإنما أمرهم موكل إلى الله ليحكم فيه يوم القيامة.

وتنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وفي خطب الكثير من دعاة التيار السلفي طروحات عديدة تنعت غير المسلمين بالكفار، ويبالغ بعض شيوخ المساجد غير الرسمية في مصر، خاصة في المناطق الريفية والشعبية، في ازدراء أصحاب العقائد الأخرى، والدعاء عليهم خلال خُطب الجمعة، ما يثير الحنق والكراهية في نفوسهم.

ويمثل الشعور بالمساواة بين أبناء العقائد والديانات المختلفة في الوطن الواحد، الطريق الأول لنبذ الفرقة والتعصب وتحويل خطابات الاستقطاب والكراهية إلى جسور للتعايش والتسامح.

تنقية التراث

تنقية الخطاب الديني مما علق به من أفكار ملتبسة
تنقية الخطاب الديني مما علق به من أفكار ملتبسة

تمارس الحكومة المصرية منذ عدة سنوات ضغوطا واضحة لإصلاح المؤسسات الدينية، وخاصة مشيخة الأزهر، ودفعها نحو لعب دور حقيقي ومؤثر في تنقية التراث وعصرنة مناهج التعليم الديني، وهو ما تتم مقاومته من تيار محافظ ينتشر داخل العديد من المؤسسات.

وهناك مَن يرى أن البداية يجب أن تكون بنبذ مصطلحات القرون الوسطى وتصحيح المسار والبدء بمراجعة شاملة وعملية للتراث ككل.

وأشار الدكتور محمد فياض أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة طنطا، شمال القاهرة، في حديث لـ”العرب”، إلى أن العصور الوسطى وما شهدته من أحداث وتحولات سياسية خطيرة لعبت دورا كبيرا في التأثير على الفكر الديني، وأسهمت في ظهور أفكار أقرب إلى التعصب، وهو ما يصبّ في خانة الازدراء المتعمّد والرفض لأصحاب الديانات الأخرى، قائلا “آن الأوان للتخلص من هذه الأفكار والمصطلحات التي أسيء فهمها وجرى استخدامها وتوظيفها لأسباب سياسية”.

وثمّن البعض من المتابعين التوجه الجديد لمؤسسة الأزهر، معتبرين أنه ضرورة ملحة ونافعة، لأنه صادر من أعلى قيادة في المؤسسة الدينية العريقة، كإنارة أو بداية لتبديد خطابات الكراهية والتعصب الشائعة في المجتمع المصري، والكثير من المجتمعات العربية، والموجهة ضد غير المسلمين.

واعتبروا أن طرح شيخ الأزهر لم يصاحبه توجه عملي مواز لتنقية مناهج التعليم التي يدرسها الطلبة، من الفتاوى والدعوات التي تكرس ازدراء الآخر بطرق مختلفة، وتسهم في التحريض على غير المسلمين.

محمد فياض: آن الأوان للتخلص من المصطلحات التي أسيء فهمها
محمد فياض: آن الأوان للتخلص من المصطلحات التي أسيء فهمها

ويدرس الطلبة في المعاهد الأزهرية فتاوى وآراء قروسطية لا محل لها في الوقت الحالي، ولا يمكن الأخذ بها أبدا، ليس لأنها فقط غير مفيدة، بل لأن أغلبها يصبّ في سياق نشر المزيد من الكراهية تجاه أصحاب الديانات الأخرى.

إلّا أن مراقبين يرون أن رفض المصطلح وحده لا يكفي، فهناك ضرورة ملحة للاعتراف من جانب مؤسسة الأزهر ذاتها بوجود أفكار متعصبة وفتاوى غريبة وآراء منافية للعقل والمنطق وضد المدنية ومسيئة للدين ذاته، ويجب التبرّؤ التام منها.

وأكد أحمد ماهر عبده الباحث المتخصص في التراث الإسلامي، أن الأزهر ما زال يعتمد على الكثير من الفتاوى والأفكار الرجعية الموغلة في التطرف، ويُقدمها ضمن مناهجه كآراء ومذاهب فكرية قائمة.

وقال لـ “العرب”، إن خطاب الكراهية تجاه غير المسلمين موجود في الكثير من الكتب التي ما زالت تقدم باعتبارها تراثا، وهناك نصوص شاذة ومحرّضة ضد الآخر.

وقام أحمد ماهر عبده، بمراجعة شاملة لمناهج الأزهر واستعراض ما تحتويه من أفكار كراهية وازدراء في كتاب حمل عنوان “إضلال الأمة بفقه الأئمة”، وأقام عدة دعاوى قضائية ضدّ مؤسسة الأزهر، كان من نتائجها مراجعة بعض المناهج وحذف بعض الكتب والآراء الشاذة.

وفي رأيه، لا يصح أن يدرس طالب الأزهر الشاب كتابا يدّعي أن المسيحي “نجس”، أو أن أكل لحم غير المسلم جائز لسدّ الرمق أثناء المجاعات، ومثلها من الخزعبلات الواردة في مؤلفات تحمل صفة الكتب الدينية، رغم ما تحمله من آراء مسيئة للدين والعلم، لافتا إلى أن ادّعاء الوسطية يتطلب توجها عمليا حيال المناهج والكتب التي تقدم للطلبة في مختلف المراحل التعليمية.

وهناك عدة كتابات متحفية، لا يصح تقديمها باعتبارها جزءا من التراث الديني الإسلامي، لأن نتائجها قد تكون كارثية على الجميع، ولا يمكن القول إن تعلمها ضرورة لصقل خبرات الطالب أو تعريفه على القياس، وغير ذلك من أدوات الفقه.وضرب ماهر عبده، مثلا ببعض كتب الفقه، مثل مصنف عبدالرازق الصنعاني، الذي يعتبر القذف والسب واللعن لغير المسلمين وسيلة للتقرب من الله، وفي ذلك يقول “ليس على قاذف أهل الذمة (غير المسلمين) حدّا، وإذا كانت اليهودية والنصرانية تحت مسلم (زوجته) فليس بينهما ملاعنة، وليس على قاذفهما حدّ وإذا قذف الرجل الرجل وله أمّ يهودية أو نصرانية فلا حدّ عليه”.

ويدرس طلبة الأزهر في فقه الإمامين، مالك والشافعي، حكما يقول بعدم جواز شهادة أهل الذمة مطلقا، وأن ديّة الكتابي نصف ديّة المسلم.

وأشار الباحث في التراث الإسلامي، إلى أن الفقه القروسطي كله يحتاج إلى تنحية تامة، ولا مجال لبدء إصلاح ديني حقيقي دون إنتاج علم نافع، له شروط محددة تقوم على قواعد أخلاقية ثابتة، ووعي بظروف العصر وتصوراته، حيث تفتقد النظم الفكرية القديمة لعلوم الدين في الإسلام لتلك القواعد.

مقاومة محتملة

الشعور بالمساواة بين أبناء العقائد والديانات المختلفة في الوطن الواحد، يمثل الطريق الأول لنبذ الفرقة والتعصب وتحويل خطابات الاستقطاب والكراهية إلى جسور تعايش وتسامح
الشعور بالمساواة بين أبناء العقائد والديانات المختلفة في الوطن الواحد، يمثل الطريق الأول لنبذ الفرقة والتعصب وتحويل خطابات الاستقطاب والكراهية إلى جسور تعايش وتسامح

يُبدي بعض علماء الدين قدرا من المقاومة لفكرة إحالة التراث الديني غير الملائم بالكامل على التقاعد، والاستغناء عنه، لأنه في نظرهم يمثل تدريبا عمليا للطلبة على الرحابة في الفكر والتعدد في الطروحات والتعرف على أنماط التفكير المختلفة وتأثرات المذاهب بالبيئات الخاصة بها.

وفي تصوّرهم، فإن المتعلم في الأزهر يتم صقله جيدا بأصول وأدوات العلم والفقه والاجتهاد قبل أن يتعرض لكافة ألوان الفكر، وأن ذلك التعرض لا يعني التوافق معه، إنما هو إلمام ضروري يخص طالب العلم فقط.

أحمد ماهر عبده: الأزهر ما زال يعتمد على الكثير من الفتاوى الموغلة في التطرف
أحمد ماهر عبده: الأزهر ما زال يعتمد على الكثير من الفتاوى الموغلة في التطرف

وذكر الدكتور عبدالمنعم فؤاد، المشرف على أروقة الأزهر العلمية، أن التراث الديني يتميز بالتعددية والرحابة ولا يجوز اختصاره في رأي شاذ أو تصور غريب، ومن الثابت عمليا أن الأزهر لم يخرج إرهابيا واحدا أو قياديا في أيّ من التنظيمات الإرهابية المعروفة رغم أنه يتخرج منه كل عام أكثر من 40 ألف عالم.

وترفض جماعات الفكر السلفي المتمددة داخل المجتمعات العربية الطرح الأخير للأزهر، ويقوم خطابها العام على نفي أي رأي آخر والصدام مع قيم المواطنة ورفض تصورات الحياة المدنية الحديثة.

وكانت مثل هذه الجماعات تستند إلى تكرار مصطلحات، مثل أهل الذمة، والكتابيين، المذكورة على ألسنة بعض شيوخ الأزهر للتدليل على قابلية استخدامها، ويمثل إعلان شيخ الأزهر قطعا للطريق أمام استعمالها في  الخطاب.

ويرى دعاة السلفية أن هذا المصطلح (أهل الذمة) ما زال قائما ولا يجوز إلغاؤه أو استبعاده، وأن هناك أحاديث عديدة منسوبة إلى النبي تصفهم بذلك وهي لا تحمل انتقاصا لهم، وهناك باب في الفقه الإسلامي اسمه “أحكام أهل الذمة”، يرى متطرفون أنه لا يمكن شطبه.

12