الأرثوذكسية سلاح استراتيجي مقدس للدفاع الروسي

تعيش الشعوب على وقع الأديان، فهي تقدسها حتى وإن كانت تعتقد أنها وهم باطل، فالأديان وخاصة المسيحية الأرثوذكسية منذ قرون تعد من أهم محفزات الشعوب للمقاومة، وخاصة في روسيا التي مرّت بمحن وتجارب متعددة منذ مطلع القرن العشرين؛ منذ فترة الاتحاد السوفييتي إلى حدود سقوط جدار برلين، حيث كانت الكنيسة الأرثوذكسية مساهمة في خلق رواية استراتيجية مقدسة تضع الإنفاق الدفاعي الروسي ووضع الأمن القومي وفق الأولويات الرئيسة للدولة.
موسكو – تعد الديانة المسيحية من أقدم الديانات في روسيا حيث انتشر المذهب الأرثوذكسي في البلد منذ العام 988 ميلادي ولم تكن الأرثوذكسية في العصر الحديث مجرّد ديانة يتفق حولها الناس بل كان هذا المذهب محفّزا للدفاع عن السوفييت ومن بعدهم الجمهورية الروسية انطلاقا من العام 1989 تاريخ سقوط جدار برلين وسقوط أسطورة الاتحاد السوفييتي.
ولا تكتسب الأرثوذكسية في روسيا طابعا دينيا، لما لها من تأثيرات على السياسة وخاصة منها الخارجية والهادفة إلى الدفاع عن الشعب الروسي المترامي الأطراف بين القارتين الأوربية والآسيوية، وخاصة في مجالي الدفاع والجيش، حيث يعتبر الدفاع عن الوطن شيئا مقدّسا.
وقد عرض الكاتب بمجلة “فورين بوليسي” الأميركية نيكولاس جفوزديف أهم المراحل التي جعلت من العقيدة الأرثوذكسية من أهم ركائز الدفاعات الروسية.
ويقول نيكولاس في تقريره “لقد ظل الاستراتيجيون الأميركيون، على مدار السنوات الست الماضية، غير مستعدين لتدخلات روسيا خارج حدودها. ونظرا لأن الاقتصاد الروسي يقع على قدم المساواة (من حيث نصيب الفرد) مع دولة في جنوب أوروبا، إذن يجب عليه أيضا أن يتبنى دورا في الشؤون العالمية، مثل ذلك الذي تلعبه دول مثل البرتغال أو إسبانيا أو إيطاليا. لكن من المؤكد أن البرتغاليين لن يدعموا حكومة لشبونة التي تحافظ على مشاركة قواتها العسكرية في عمليات محدودة حول العالم”.
ويؤكد أن روسيا قد تكون واقفة الآن على منحدر سقوط طويل الأجل، لكنها تحتفظ برؤيتها لنفسها كقوة عظمى ومستعدة للإنفاق للحفاظ على بعض القدرات التي تؤكد هذا الوضع. ومن أجل فهم كيف ولماذا لا يزال هذا هو الحال، فإنه يجب قراءة كتاب “نيوكليار أرثوذكسي” للكاتبة ديما أدامسكي، لتوضيح كيف ساعدت الكنيسة الأرثوذكسية في خلق رواية استراتيجية مقدسة جديدة تضع الإنفاق الدفاعي الروسي ووضع الأمن القومي في السياق.
ولاقى كتاب أدمسكي ترحيبا كبيرا، كما أشار ديمتري غورنبرغ في وجهة نظره عن الكتاب، لتسليطه الضوء على “جانب من جوانب تطور الجيش الروسي في ما بعد الاتحاد السوفييتي والذي لم يتم ذكره فعليا في الدراسات الحالية. وسيتعين على أي دراسات مستقبلية تدور حول دور الجيش في المجتمع الروسي والسياسة الخارجية الروسية أن تأخذ في الحسبان المدى الذي يربط بين الجيش وتحالفه مع الكنيسة الأرثوذكسية الروسية”.
نيكولاس يقول إنه يشعر بالقلق من أن مؤسسة الأمن القومي الأميركية لا تزال تفتقر إلى أدنى مستوى لتقدير دور الدين، وخاصة في مسائل الحرب والسلام
ومع ذلك، يقول نيكولاس إنه يشعر بالقلق من أن مؤسسة الأمن القومي الأميركية لا تزال تفتقر إلى أدنى مستوى لتقدير دور الدين، وخاصة في مسائل الحرب والسلام. وإن هذا ليس شيئا جديدا، حيث كانت هذه المشكلة قد حددها روبرت جيرفيس كواحد من الأسباب الرئيسية لمجتمع المخابرات الأميركي بسبب الثورة الإيرانية قبل أربعين عاما.
وينظر موقع “أكاديميا” إلى حد كبير إلى مسألة الدين من خلال نظرية العلمنة والفكر الماركسي، باعتباره “غطاء” لدوافع سياسية أو اقتصادية أخرى. ويشدد النهج الأميركي في الشؤون الدينية على أولوية اختيار الفرد وعلاقته بالله، ويفترض أنه في غياب الالتزام الفردي (على سبيل المثال، إذا لم يكن لكل موظف وعالم روسي علاقة شخصية مع يسوع المسيح الرب والمنقذ) لا يوجد إذن أي عامل ديني في القضية، لأن فكرة الالتزام بالمجتمع الديني والتقاليد كجزء من الانتماء الجماعي حتى في غياب الالتزام الشخصي هي غريبة على التجربة الدينية للولايات المتحدة.
ومع ذلك، فإن الاتجاهات التي سردتها أدمسكي وكذلك تطور “الأرثوذكسية ” على مدار الثلاثين عاما الماضية، يعتبران أمرين مهمين، من ناحية لأن الرواية الاستراتيجية المقدسة التي تم إنشاؤها تتناول جوهر ما وصفته أنا وديريك ريفيرون وماكوبين أوينز بأنه سؤال “الموت والقتل ودفع الثمن”. بمعنى آخر، “عليك أن تقرر ما تريد أن تموت من أجله، وما الذي ترغب في قتله، وما الذي ترغب في دفع ثمنه. قد لا ترتفع بعض الأشياء إلى المستوى الذي ترغب في تعريض نفسك للخطر من أجله، ولكن ربما تكون على استعداد لتقديم بعض الموارد”.
وتوفر الأرثوذكسية الأساس المنطقي للأفراد للتضحية والشعور بأن تضحياتهم لم تكن من دون جدوى، ولكن في خدمة قضية أكبر منهم شخصيا.
وفي حد ذاتها، لا تعتبر هذه الحقيقة مثيرة. حيث يستشهد العديد من أفراد الجيش الأميركي لقرارهم بالتجنيد بدافع الرغبة في أن يكونوا جزءا من مسعى أكبر. ولكن هذا هو “السبب” الذي يُقال إن مؤسسات الأمن النووية والوطنية الروسية تخدم من أجله. ومن أجل فهم “الأرثوذكسية”، يحتاج الأميركيون، الذين لا يعرفون إلى حد كبير اتجاهات التاريخ البيزنطي والسلافي، إلى فهم المفهوم اللاهوتي والثقافي للكومنولث المسيحي.
حيث في المسيحية الغربية، يُنظر إلى الإمبراطور قسطنطين بشكل عام بصورة سلبية، وبالتأكيد على أنه مُفسد للدين المسيحي أو على أنه يسعى خلف السلطة متبنيا دينا صاعدا لتعزيز قبضته على الإمبراطورية الرومانية.
أما الشرق المسيحي، فيمجد قسطنطين -القديس الكنسي للكنيسة الأرثوذكسية- ليس لسلوك حياته الشخصية، بل لأنه اتخذ خطوات لتضييق الفجوة بين المجتمع الأرضي ومملكة السماء. حيث أعاد تشكيل الدولة من مضطهد للمسيحيين إلى حامي الكنيسة.
ومن المثير للاهتمام، في العالم الأرثوذكسي، وحتى في روسيا، أن الحكام الرئيسيين الذين تبنوا المسيحية وُصفوا بأنهم “قسطنطينيون جدد” أو “خلفاء لقسطنطين”.
وقد أصبحت حماية الكنيسة والمجتمع وسيلة لتقديس مهمة الدولة وخاصة الخطوات التي اتخذت في مجال دفاعها. وكانت هناك حدود في ما يتعلق بالمدى الذي ستذهب إليه الكنيسة، مثل رفضها في القرن التاسع عشر، مطلب الإمبراطور لرفع الجنود الذين سقطوا في المعركة إلى رتبة الشهداء، ولكن من القرن الرابع فصاعدا، قبل العالم الأرثوذكسي مفهوم الدولة كجدار يحمي جوهرة الإيمان المسيحي.
تم تبني هذا المفهوم من قبل الأسلاف في القرن التاسع عشر، خاصة أليكسي خومياكوف، حول دور الأوصياء الذين يقومون بالمهمة الصعبة المتمثلة في حماية المؤمنين من الهجوم الخارجي. بالإضافة إلى ذلك، فإن الترانيم الأرثوذكسية مليئة بالإشارات إلى الكومنولث المسيحي، أو الوطن السماوي. وقد أعاد المؤلفون الروس في العصور الوسطى تحديد إسرائيل إلى الكومنولث المسيحي الأرثوذكسي المتمركز في موسكو، روما الثالثة، ومن ثم، التزام الدولة الروسية بحماية المسيحيين الأرثوذكس.
ولا يوحي أي من هذا بأن ضباط الصواريخ الروس في القرن الحادي والعشرين منشغلون بالاستشهاد بفيلوفي أو غيره من اللاهوتيين الروس، لكن ما فعلته أدمسكي هو إظهار كيف أن الكنيسة الروسية خلقت، في أعقاب الانهيار السوفييتي، كنيسة جديدة تجادل بأن المهمات النووية والعسكرية ليست مصممة فقط لحماية الوطن ولكن لخدمة قضية أكبر.
وهكذا تتم إعادة تخيل الأسلحة النووية ليس فقط كأسلحة دمار شامل ولكن كأسلحة تضمن السلام، وحتى أنه يتم وصفها في التراتيل الأرثوذكسية على أنها “أسلحة سلام”. والدلالة على ذلك هي أنه إذا فشل الجيش والمؤسسات العلمية في تحقيق مهامهم، فإن الشر سينتشر في العالم. وفي السنوات الأخيرة، يتم تعريف هذا الشر بالفساد الناشئ في دول الغرب.
ومنذ نهاية الاتحاد السوفييتي، تمت إعادة تفسير العداء القديم بين الدولة السوفييتية والكنيسة الروسية، التي كان يؤمن بها تقريبا كل شخصية عسكرية وعلمية سوفييتية رئيسية سرا (بما في ذلك المارشال جورجي جوكوف ويوري غاغارين، أول رجل صعد إلى الفضاء).
وحتى جوزيف ستالين، الذي قام من خلال “مفوضية الشعب للشؤون الداخلية” خلال ثلاثينات القرن الماضي بسجن الآلاف من القساوسة في معتقلات غولاغ وإغلاق كل كنيسة تقريبا في البلاد، من المفترض أنه “رأى النور” خلال الحرب العالمية الثانية.