الأخوة كارامازوف والماتادور

الأحد 2017/03/26

منذ سنوات طويلة خلت حدثني جدي عن قصة شقيقين فرّقت بينهما الظروف والأقدار حيث ولدا في عائلة فقيرة للغاية، وبحكم الخصاصة والحاجة فرطت الأم في أحدهما لجارتها العاقر الثرية، نشأ الشقيقان كل في عائلة وكبرا في حيّ واحد ولم يكن يعرفان أنهما من بطن واحدة، كانا يختصمان كثيرا بل تولدت بينهما منافسة شديدة للغاية في الدارسة أو اللهو بلغت حد العداوة فكل منهما يريد أن يكون الأول والمسيطر و"الزعيم".

كبرا يوما بعد يوم والتحقا بالجندية ليحملا بعد ذلك السلاح معا ودافعا سويا عن الوطن، تحولت في تلك اللحظة علاقة العداوة إلى صداقة صادقة خاصة وأن الولد الغني كاد يلقى حتفه لولا تدخل الولد الفقير الذي دفعه بعيدا لينقذه من رصاصة طائشة، أصبحا في حب الوطن مثل الرجل الواحد لا فرق بينهما، لكن بمجرد عودتهما إلى مسقط الرأس والحيّ عادا ليختصما من جديد ويتنافسا على فتاة واحدة لخطبتها.

هي قصة ذكرتني بما يحدث اليوم ومنذ سنوات بين الصديقين "اللدودين" سيرجيو راموس مدافع ريال مدريد وجيرارد بيكيه مدافع برشلونة، فهذان اللاعبان يعرفان بعضهما جيدا منذ سنوات طويلة ويلتقيان سويا كلما تمت دعوتهما للعب مع المنتخب الإسباني، بل لا يتورع أحدهما على الدفاع عن الآخر، لكن بمجرد العودة للعب مع فريقيهما تبدأ الحروب الكلامية، وكل منهما يدافع بشراسة عن ناديه حتى وإن كان ذلك على حساب الصديق المدافع عن “معسكر العدو”.

علاقة راموس وبيكيه هي أشبه بفصل متصل بالرواية العالمية الشهيرة “الأخوة كارامازوف” للكاتب الروسي دستويفسكي التي جسد خلالها صراع العقل والقلب وصراع المصلحة الذاتية في خصامها الدائم مع المصلحة العامة، فبين حبّ الذات والذّود عنها في نطاق ضيق وتأثير المحيط والروابط الأسرية خيط رفيع قضى على “الأخوة كارامازوف”، لكنه ساهم في تطهير علاقة راموس وبيكيه من “دنس” المنافسة المحتدمة بين المعسكرين القويين داخل إسبانيا.

إسبانيا، نعم هي من وحدت بين اللاعبين، واللعب تحت علمها ولوائها ساهم في جعلهما قريبين جدا ومستمتعين للغاية باللعب جنبا إلى جنب، حتى وإن كان كل منهما ينتمي لمعسر العدو داخليا.

بدأت علاقة بيكيه وراموس مع “الماتادور” الإسباني، أي المنتخب منذ حوالي عشرة أعوام، فبعد تألقهما مع برشلونة والريال كان لزاما دعوتهما للدفاع عن الراية الإسبانية، وبما أنهما يلعبان في الدفاع، فإنهما لعبا جنبا إلى جنب وتشاركا في تنفيذ الهدف الواحد تحت راية واحدة.

ومع كل مباراة دولية مع المنتخب الإسباني سواء في بطولة أوروبا التي توج بها اللاعبان أو بطولة العالم التي احتفل بها راموس وبيكيه معا سنة 2010، كانت الفرحة والتكامل والتضامن رابطا قويا بينهما، فأصبحا صديقين مقربين، ولا حرج بينهما في إظهار هذه المودة والصداقة مع المنتخب في الملاعب أو خارجها.

آخر ظهور لراموس وبيكيه معا كان منذ فترة قليلة في مباراة تصفيات مونديال 2018، حيث لعبا معا وتقاسما فرحة تحقيق الفوز، لم يكن بينهما أيّ حقد أو كراهية، بل هو العكس وهو ما أكّده كل زملائهم في المنتخب، إلى درجة جعلت اللاعب جوري ألبا يؤكد بعد المباراة أنهما سعيدان للغاية لتواصل لعبهما جنبا إلى جنب مع المنتخب.

ظهور سيتواصل بلا شك، لأن الحلم المشترك القادم سيكون بلوغ نهائيات كأس العالم والسعي للحصول على اللقب العالمي مرة أخرى والاحتفال سويا مجددا، بيد أن هذه العلاقة الودودة والرائعة ستنتهي سريعا، فبمجرد نزع قميص المنتخب الإسباني سيعود اللاعبان لمعقليهما في مدريد وبرشلونة، وسيذود كل منهما على ألوان فريقيهما المتنافسين دوما على الألقاب محليا وقاريا.

سيعود بلا شك بيكيه إلى نشر تعاليقه في مواقع التواصل الاجتماعي لانتقاد الريال أحيانا والحكام الذين يديرون مباريات فريق مدريد أحيانا أخرى، سيعود معه راموس للحديث عن قوة فريقه وجدارته بالفوز تارة وعن “التصرفات والتصريحات الصبيانية” تارة أخرى.

سيعود التنافس القويّ والمحتدم قريبا للغاية بلا شك، خاصة وأن الأسبوع الأخير من الشهر المقبل سيعرف مواجهة حامية الوطيس بين المعسكر المدريدي الذي يدافع عنه راموس من جهة والمعسكر الكاتالوني الذي يضم بيكيه من جهة ثانية، سيكون مدارها المراهنة على لقب الدوري المحلي. ستبدأ قريبا “الحرب الكلامية” وكل طرف سيدافع بكل قوة عن مصالحه ومصالح فريقه حتى وإن كان ذلك على حساب تلك الصداقة القديمة والمستمرة إلى اليوم.

ربما يشعر كلّ من راموس وبيكيه أن مثل هذه “الحروب” مادامت لم تخرج عن السيطرة مشروعة ومقبولة، بل هي تبدو أحيانا مثل المنكّهات التي تزيد من حلاوة التنافس القوي والمحتدم بينهما بألوان الفريقين “الغريمين”.

ومع ذلك، كل شيء سينتهي مع انتهاء الموسم الرياضي، فبمجرد الدعوة من جديد لتعزيز صفوف منتخب “لا فوريا روخا” تعود تلك العلاقة الرائعة وتظهر للعلن، ستنتهي بذلك كل الحروب المعلنة وغير المعلنة، وينتهي خصام “الأخوة كارامازوف”، فبيكيه وراموس يدركان جيدا أن التنافس محليا يجب ألا يؤثر بالمرة على علاقتهما ولا ينبغي أن يكون مصدر قلق صلب المنتخب الإسباني، هما يعلمان جيدا أن سر نجاحهما سابقا مع المنتخب هو أن كل الألوان تنتفي بمجرد اللعب باللون الأحمر الذي يميز “الماتادور”.

كاتب صحافي تونسي

22