اغتيال بلعيد والبراهمي ملف سياسي وليس ملفا قضائيا
أحيت الجبهة الشعبية الذكرى الثانية لاغتيال قائدها الشهيد الحاج محمد البراهمي يوم ذكرى عيد الجمهورية في 25 يوليو 2015، بنفس درجة الوفاء والولاء والإصرار التي أحيت بها الذكرى الثانية لاغتيال الشهيد شكري بلعيد يوم 6 فبراير الماضي. شهيدا تونس، والجبهة الشعبية، سقطا تصديا للرغبة الجامحة في الالتفاف على الثورة من قبل المخطط الإخواني السلفي التكفيري، الذي أعلن عن نفسه بعد عودة قيادات النهضة والتيار الإسلامي من المهجر، وبعد خروج المتشددين والتكفيريين من السجون متمتعين بالعفو التشريعي العام.
سقط الشهيدان بلعيد والبراهمي وهما يدافعان عن تونس الثورة والحرية والوحدة والتقدم والعدالة. كانت أصواتهما عالية ورؤاهما واضحة لم تحجب وضوحها كل المناورات الإخوانية، ولا استعراضات القوّة التكفيرية، ولا مظاهر الغلَبة والقهر التي مارسها التكفيريون في المساجد والساحات العامة لأنهم كانوا يتمتعون بغطاء حركة النهضة ويتسترون بجلابيب قادتها الموجودين في صفّها الأول في المجلس التأسيسي وفي مجلس الشورى وفي المكتب التنفيذي. ولم يزل هذا الغطاء حتى بعد الوصول إلى قيادة حكم الترويكا بل هناك عرف أبرز تجلياته. وعانى التونسيون صلف التكفيريين والإخوان وعتوّهم وقد كانوا مندمجين متماهين بلا مواربة.
قاد الزعيمان الشهيدان شكري بلعيد ومحمد البراهمي معركة مقاومة الالتفاف على الثورة بعد 23 أكتوبر 2011 من قبل المخطط الإخواني السلفي التكفيري. قادا المعركة كلّ من موقعه. فكان الشهيد شكري بلعيد يخوض معركته بين الجماهير متنقلا بين الساحات العامة في مختلف ربوع تونس، وفي وسائل الإعلام، وفي محاريب القضاء باعتباره محاميا ألمعيا ما زالت أصداء صوته تردّدها جدران المحاكم التونسية. لقد تطوع الشهيد شكري بلعيد للترافع في أغلب قضايا الحريات قبل 14 جانفي وبعده. ولم يكن يرضى مقابلا له أكثر من محبة شعبه.
لم يترك شكري لعائلته من الثروة إلا هذه المحبة التي جسدها مليون ونصف مشيع حضروا جنازته يوم 8 فبراير 2013. كانت جنازة شكري بلعيد جنازة تاريخية لم تعرف تونس مثيلا لها عبر تاريخها. وهي التي أربكت حسابات الإخوان والتكفيريين الذين فاجأتهم شجاعة الشعب التونسي وعدم خوفه من مظاهر التكفير وإباحة الدماء والعنف.
وكان الشهيد محمد البراهمي يقود معركته، أساسا، داخل رحاب المجلس التأسيسي مقر الشرعية البرلمانية والسيادة الشعبية. هناك صرخ الشهيد منددا بسطوة الأغلبية الترويكية الزائفة، منبّها إلى أن المشهد لم يتضح بالكامل وإلى أن أغلبية المتباهين بها إلى زوال، لاسيما أنها مصابة بلوثة المال السياسي الفاسد والمساعدة السياسية واللوجستية الخارجية المفضوحة.
في مقر المجلس الوطني التأسيسي حيث الشرعية الشعبية، أنجز الشهيد محمد البراهمي اعتصام الجوع الشهير مع ابن جهته النائب أحمد الخصخوصي احتجاجا على استمرار التهميش والإهمال لجهة سيدي بوزيد، التي منها انطلقت شرارة الثورة التي أسقطت نظام زين العابدين بن علي. ومنذ تلك اللحظة بدأت الضغوطات تتضاعف على الشهيد من قبل حركة النهضة زعيمة الترويكا الحاكمة. وزادت هذه الضغوطات بعد أن فاجأتهم بصيرة الشهيد وبعد نظره حين تخلّى عن حزبه حركة الشعب لمن صاروا من رفاقه أميل للاقتراب من النهضة، وأسس التيار الشعبي الذي انضم به إلى الجبهة الشعبية مخيّرا درب رفيقه شكري بلعيد المحفوف بالمخاطر، على درب الإخوان المزدهي بغلبته وأغلبيته وحكمه العابر. لم يغفروا لشكري بلعيد ومحمد البراهمي مشاركتهما في تأسيس الجبهة الشعبية. كانت الجبهة ومازالت، منحازة إلى أهداف الثورة كاشفة كل الانحرافات، فاضحة كل المخططات المعادية لتونس وثورتها ومستقبل شعبها.
اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد براهمي هما اغتيالان سياسيان الغاية منهما إزالة خصمين سياسيين يكتسحان الساحة السياسية ويعطلان مخططا معاديا لشعبهما. ولذلك فإن الإمعان في التعاطي مع الملفين تعاطيا قضائيا هو إيغال في المغالطة وإصرار على إخفاء الحقيقة البينة، واستمرار لنهج اللعب بورقة الاغتيالات السياسية لغايات سياسية تحكمها المصالح السياسية والشراكات والتقاطعات الظرفية.
يعرف القائمون على حكم تونس اليوم أن حقيقة اغتيال بلعيد والبراهمي تتطلب التفتيش في علاقة حركة النهضة بالتكفيريين قبل انتخابات 2011 وحجم مسؤوليتها في اكتساح المساجد وانتشار التكفير وتيسير جلب الدعاة الأجانب والعمل على تغيير نمط المجتمع التونسي وطبيعته والدور الذي لعبته منذ توليها الحكم مطلع 2012 في المخططات الدولية. وتتطلب أيضا التقليب في ملف وزراء النهضة لاسيما في الداخلية والعدل وفي ملف الأمن الموازي واختراق أجهزة الأمن والمخابرات والاستعلامات. فإن لم تكن للنهضة مسؤولية جنائية مباشرة في اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي، فإن المسؤولية السياسية والأخلاقية قائمة.
ولذلك ستبقى عمليتا الاغتيال جريمتيْ دولة لن تتخف حركة النهضة من وزرهما باعتبار مسؤوليتها في الحكم أثناء وقوعهما. ولن تتحقق أي مصالحة وطنية في تونس ما يلم يغلق هذا الملف بشكل عادل.
كاتب وباحث سياسي من تونس