اغتيال الحالة العسكرية للقضية الفلسطينية

نيران حماس وأخواتها في المقاومة الفلسطينية أخف وطأة من الضريبة السياسية التي يمكن دفعها في حالة السلام لأن المجتمع الإسرائيلي يحيا على الحرب أكثر من الهدوء الذي يكشف تناقضاته.
الاثنين 2023/11/13
رأي عام دولي رافض لمنهج التغول

برزت الحالة العسكرية العربية كوسيلة وحيدة للتعامل مع إسرائيل منذ نشأتها على أنقاض الأراضي الفلسطينية، وحدثت انكسارات كبيرة وانتصارات محدودة، وعندما برز طريق التسوية السياسية بين مصر وإسرائيل لم تتوقف المقاومة الفلسطينية للاحتلال، ثم أضيف إليها وبالتوازي معها ما عرف بعملية السلام التي انطلقت عبر مؤتمر مدريد الشهير، وكلاهما (الحرب والسلام) لم يحقق هدفه في الدولة الفلسطينية.

فتح العدوان الإسرائيلي الحالي على قطاع غزة بعد عملية “طوفان الأقصى” التي قامت بها المقاومة المجال للحديث عن اغتيال الحالة العسكرية للقضية الفلسطينية، فقد أعلنت إسرائيل منذ البداية أن هدفها القضاء على قوة حماس المسلحة في غزة، وتجفيف الضفة الغربية التي بدأت تتمدد فيها عسكريا، ووجدت تأييدا ودعما كبيرين من قوى دولية لأهدافها عموما، وفي مقدمتها الولايات المتحدة التي لم تبخل على إسرائيل ماديا وسياسيا وعسكريا، وانسجمت غالبية مواقفها الرسمية معها.

سعت إسرائيل نحو التخلص من الشق العسكري للقضية الفلسطينية، ممثلا في حركة حماس، من خلال الترويج إلى أنها تخوض حربا نيابة عما أسمته بـ“العالم المتحضر”، في محاولة لغض الطرف عن تماديها في الأعمال العسكرية وما نجم عنها من انتهاكات بحق مدنيين وأطفال ونساء ومستشفيات وأماكن عبادة ومدارس، بل تبرير أن من قتلهم هي حركة حماس، بزعم أنها استخدمتهم كدروع بشرية، ووجدت هذه الرواية من يصدقها في الغرب ويتبناها ويعمل على نشرها على أوسع نطاق.

◙ أيلون ماسك لفت إلى نتيجة خطيرة عندما قال بوضوح إن خلف كل حمساوي يذهب على يد إسرائيل حمساويا آخر أشد منه يظهر في المستقبل، في إشارة تؤكد أن المقاومة لن تنتهي

تشير العمليات العسكرية الواسعة في غزة، وطالت البشر والحجر، وكوادر حماس وغيرها من الفلسطينيين، إلى أن إسرائيل اتخذت مما قامت به الحركة في السابع من أكتوبر الماضي تكئة لإنهاك الجناح المسلح للفصائل والسعي للتخلص من المقاومة ونزع آلياتها الصلبة في مواجهة الاحتلال، وجعل قطاع غزة منطقة خالية من السلاح وآمنة لإسرائيل، وهو هدف تزايدت ملامحه في خطاب بعض القوى الغربية.

يعني ذلك سد جميع المنافذ أمام الحالة العسكرية في القضية الفلسطينية، وكتابة مرحلة جديدة في عمرها بلا مقاومة مسلحة، قريبة من تلك التي وصلت إليها إسرائيل في الضفة الغربية، فمع كل أشكال المقاومة البسيطة فيها والاحتجاجات المتكررة، غير أن الشكل العسكري في الضفة لا يزال محدودا، إلا ما ندر في جنين ونابلس، وبدأ ميزان القوى ينحرف لصالح المستوطنين وعتاة المتطرفين الذين زاد تسليحهم أخيرا.

من الصعوبة القطع بأن إسرائيل حققت هدفها في تصفية الجانب العسكري للقضية الفلسطينية أو يمكن أن تحققه في المدى القريب، حيث تصمد المقاومة في مواجهة آلة الحرب التي زحفت بكثافة على غزة وتقوم بالرد بوسائل مختلفة قد تنهك المدرعات والمجنزرات والجندي الإسرائيلي، فالحرب داخل القطاع تتسم بالكر والفر، ويمكن أن تحفل بمفاجآت غير متوقعة مثل كل حروب الشوارع في المدن، والتي تتفوق فيها كثيرا الجماعات المسلحة على الجيوش النظامية.

تحتاج إسرائيل لتصفية المقاومة إلى فترة زمنية طويلة لا أحد يستطيع تقديرها، مع التغيرات النسبية التي بدأت تحدث في مواقف المجتمع الدولي، والتحولات المتزايدة من جانب شعوب دول عديدة، بينها إسرائيل، إذ يمكن أن تؤدي الاحتجاجات إلى خلق بانوراما من الرأي العام الدولي الرافض لمنهج التغول العسكري الذي تمارسه إسرائيل، وتتبقى أجزاء من المقاومة في غزة.

تدرك إسرائيل أن اغتيال المقاومة والتخلص منها في غزة يمكن أن يضع على كاهلها عبئا سياسيا مكلفا، يعيدها سنوات إلى الوراء، وهي التي أسهمت عمدا في تمكين المقاومة من التوسع في عملياتها لتوجد لنفسها مبررا في الدخول والخروج إلى غزة، وتستثمر في تفاقم الانقسام الفلسطيني، والذي اتخذته ذريعة في أوقات كثيرة للتنصل من أي التزامات سياسية دولية، بل ساعدها ذلك على تجميد عملية السلام التي رعتها واشنطن، ونجحت في وأد مبادرات جاءت من جهات مختلفة.

يقود التخلص من المقاومة في غزة وبقاء إسرائيل لفترة بحجة حفظ الأمن في القطاع إلى ارتفاع أصوات فلسطينية وعربية ودولية تطالب بالعودة إلى طريق التسوية السياسية وما يعرف بحل الدولتين، وهي نغمة تتردد فعلا في أروقة متباينة الآن، بينها الإدارة الأميركية، حيث تيقنت أن غياب الأفق السياسي أحدث فراغا نجحت المقاومة في ملئه بالطريقة التي أحدثت كارثة داخل إسرائيل وأرخت بظلال سلبية على أسطورتها العسكرية التي تعمل على استردادها بالتمادي في تقتيل الشعب الفلسطيني.

أدى دحر المقاومة كهدف لدى قيادات سياسية وعسكرية إسرائيلية إلى مأزق إستراتيجي لدولتهم، وفرض عليها خيارات لا تريدها، فإنهاء العسكرة في القضية الفلسطينية يمنح ما يعرف بجناح السلام أو الحمائم أملا في العودة ورفع صوته لتبني حلول سياسية، ويوحي التنازل عن التخلص من المقاومة بأن إسرائيل أخفقت في تحقيق هدفها وصعدت إلى أعلى الشجرة وهي لا تملك وسيلة تساعدها للهبوط منها.

◙ العمليات العسكرية الواسعة في غزة، وطالت البشر والحجر، وكوادر حماس وغيرها من الفلسطينيين، تشير إلى أن إسرائيل اتخذت مما قامت به الحركة في السابع من أكتوبر الماضي تكئة لإنهاك الجناح المسلح للفصائل

تميل الطريقة التي يفكر بها جنرالات إسرائيل إلى تقسيم الحل العسكري في التعامل مع المقاومة، فقد واتتها فرص لإنهاء ظاهرة حزب الله اللبناني في حرب عام 2006 ولم تفعل، وخاضت حروبا متقطعة مع حماس والجهاد في الخمسة عشر عاما الماضية ولم تجهز على آلتهم العسكرية، لأنها تعي بأن إنهاء المقاومة باهظ سياسيا.

قد يكون المشهد الراهن الذي خلفته عملية “طوفان الأقصى” مختلفا عن المشاهد السابقة، لكن معطياتها تؤدي إلى نتيجة واحدة، تفرض عليها احتلالا جديدا لغزة وتحمل تكاليفه بحكم القانون الدولي الذي يضع أعباء على الدولة المحتلة، أو انسحابا مع إيجاد صيغة إقليمية أو دولية أو فلسطينية لحكم القطاع، وفي كليهما يصعب القول بانتهاء المقاومة.

لفت صاحب منصة إكس، تويتر سابقا، أيلون ماسك، إلى نتيجة خطيرة عندما قال بوضوح إن خلف كل حمساوي يذهب على يد إسرائيل حمساويا آخر أشد منه يظهر في المستقبل، في إشارة تؤكد أن المقاومة لن تنتهي، وربما يصبح الخارجون من رحم الحرب الحالية أشد بأسا بعد رؤية المجازر التي قامت بها إسرائيل أمام أعينهم.

يبدو أن عملية اغتيال المقاومة من الطموحات الكبيرة التي يتمناها البعض ممن يرون أن الطريق الوحيد لحل القضية الفلسطينية هو التسوية، لكن قادة إسرائيل أنفسهم لن يقبلوا ذلك عندما تهدأ أعصابهم ويفكرون بعيدا عن مشهد فاجعة السابع من أكتوبر.

قد يرون أن نيران حماس وأخواتها في المقاومة الفلسطينية أخف وطأة من الضريبة السياسية التي يمكن دفعها في حالة السلام، لأن المجتمع الإسرائيلي يحيا على الحرب أكثر من الهدوء الذي يمكن أن يكشف عوراته ومشاكله وتناقضاته الداخلية.

8