اعتذار متأخر عن التطبيع مع إسرائيل

فتح العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وما خلّفه من دمار وضحايا في صفوف المدنيين النقاش حول قضايا عديدة اعتقد البعض أنها أصبحت من البديهيات السياسية، أبرزها ما يتعلق بالتطبيع بين العرب وإسرائيل، والذي اعتبره الرئيس الأميركي جو بايدن أحد الدوافع التي اعتمدت عليها عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر الماضي وقامت بها كتائب عزالدين القسام، الجناح العسكري لحماس، بإشارته المباشرة إلى أنها استهدفت تخريب مسار التطبيع بين السعودية وإسرائيل.
يوجد مساران للتطبيع في المفهوم العربي العام، أحدهما رسمي بين الدول وتفرضه حسابات تتعلق بالسلطة في كل دولة عربية، والآخر شعبي وتلعب فيه دورا مهما رؤى النخب السياسية في كل دولة على حدة. قد ينجح الأول ويعاني من متاعب بسبب رفض الفريق الثاني أو يستثمر الممانعة النخبوية والشعبية في تخفيف الضغوط وحثه على المزيد من الانخراط في مجالات مختلفة للتطبيع.
مصر نسجت نموذجا فريدا في هذه المسألة، حيث وقّعت أول اتفاقية سلام مع إسرائيل وفتحت الباب للتطبيع الرسمي، وأغلقته شعبيا أو بمعنى أدق لم تمارس السلطة صلاحياتها لتعميمه وتركت مساحة للسجال النخبوي بين فريقين، مع التطبيع وضده.
◙ الموقف الذي أوجده العدوان الإسرائيلي على غزة رسميا وشعبيا لا يحمل رفاهية مناقشة مع أو ضد، فرفض العدوان حاسم ولا يحتمل التباسات للتفكير في من مع من، ومن ضد التطبيع
الفريق الأول عُرف بمؤيدي التطبيع مع إسرائيل ورحبت عناصره الليبرالية بالدخول في حوارات ومحادثات في القاهرة وعواصم غربية مثل أوسلو وكوبنهاغن، مع أحزاب اليسار في إسرائيل وشخصيات محسوبة على هذا التيار قبل تآكله حاليا، وأسفرت عن حصيلة من النقاشات حول فرص التطبيع وتحدياته وأهميته، والتي قادت إلى تشكّل ما عرف في مصر بجماعة “كوبنهاغن” نسبة إلى العاصمة الدانماركية التي عقدت فيها اجتماعات بين نخب مصرية وإسرائيلية بدعم من دول غربية.
أما الفريق الثاني فعرف برافضي التطبيع وتشكّل من نخب يسارية وإسلامية مصرية عريضة، وامتد إلى داخل غالبية النقابات المهنية، وكان لها نشاط سياسي فاعل خلال عقود الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي والألفية الأولى من هذا القرن، واتخذت قرارا واضحا برفض التطبيع واعتبرته جريمة وقامت بتوقيع عقوبات على من يقترفها، وحتى الآن لا يزال هذا الموقف ساريا، مع أن تطبيقه لم يكن صارما وحدثت خروقات عدة له.
لا يسعفني المجال للمزيد من الاستطراد في الشد والجذب بين أنصار الفريقين وهي كثيرة، فما جعلني أتناول هذا الموضوع هو الجرح الذي نكأته الحرب على غزة لدى بعض قدامى مؤيدي التطبيع في مصر، حيث بادر أحدهم وهو الدكتور أسامة الغزالي حرب في عموده اليومي بجريدة “الأهرام” بكتابة مقال بعنوان “اعتذار” في التاسع عشر من نوفمبر الجاري، يبدي فيه أسفه على حماسه السابق للتطبيع مع إسرائيل، وقد دفعته صور المجازر التي ارتكبها جيش الاحتلال في غزة أخيرا إلى هذه الخطوة.
لم يحظ مقال الغزالي، والذي شغل صاحبه من قبل منصبي مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية ثم رئيس تحرير مجلة “السياسة الدولية”، باهتمام كبير من النخب المصرية، ربما لأن ملف التطبيع فتر ولم يعد يحتل أولوية لديها، ليس رفضا أو اقتناعا واستسلاما له، لكن لأن الفضاء العام لا يستسيغ طرح هذا النوع من القضايا، كما أن الحديث عن تأييد التطبيع أو ممانعته لا يشغل القاهرة ونخبتها، وبات الحديث عنه موسميا، وانتقل ثقله إلى عواصم عربية أخرى.
كما أن الموقف الذي أوجده العدوان الإسرائيلي على غزة، رسميا وشعبيا، لا يحمل رفاهية مناقشة مع أو ضد، فرفض العدوان حاسم ولا يحتمل التباسات للتفكير في من مع من، ومن ضد التطبيع، لأن السؤال غير مطروح على النخبة، ما جعل مقال “اعتذار” للغزالي حرب عاطفيا ومشحونا بصور الدماء التي لحقت بشريحة من المدنيين في غزة، لأن سؤال قبول التطبيع مع إسرائيل ورفضه لن يتوقف طرحه، وقد يزداد الفترة المقبلة ويثير انقساما كبيرا إذا تمخضت حرب غزة عن عملية تسوية سياسية مبتكرة بين إسرائيل والفلسطينيين.
لا أعلم وقتها أين يقف الدكتور أسامة الغزالي حرب الذي أعلن اعتذاره على تأييده السابق للتطبيع، مع أنه كان أقل من غيره حماسا له، ومواقفه السياسية دائما ما تأتي مفتوحة وتترك له مساحة أو خطا للرجعة، فإذا كان في طليعة “المطبّعين” فهو لم يكن من غُلاتهم أو ممّن انخرطوا كثيرا في تفاصيله ومعاركه وتحوّلوا إلى رأس حربة، وربما هذه المرونة هي التي جعلته لا يتردد في إعلان الاعتذار.
يحمل “اعتذار” حرب علنا أسئلة للمستقبل والموقف من التطبيع المتوقع أن يتم الحديث عنه على نطاق واسع بصيغ مختلفة، فطالما هناك حرب سوف تكون هناك إمكانية للتفكير في السلام، ما يتطلب نقاشات من النخبة العربية، والتي قد يبدو بعضها محرجا في الحديث عن هذا الملف في خضم الحرب ورواسبها، لكن سيكون عليهم أن يدلوا برأيهم وقت الحاجة، لأن رفض إسرائيل أو قبولها سوف يصبح عملية ديناميكية، لا تحتمل تبنّي مواقف حدية مع دخول الكثير من التحولات على مفهوم التطبيع.
◙ يوجد مساران للتطبيع في المفهوم العربي العام، أحدهما رسمي بين الدول وتفرضه حسابات تتعلق بالسلطة في كل دولة عربية، والآخر شعبي وتلعب فيه دورا مهما رؤى النخب السياسية في كل دولة على حدة
كانت الطبعة الأولى من النقاش حول التطبيع تستوجب القبول والممانعة والاستفادة من المسافة الطويلة بينهما، بينما الطبعة الثانية منه التي ظهرت ملامحها ومؤشراتها قبل حرب غزة أكثر مرونة وأقل حدة وتصب في صالح القبول وليس الرفض، ما يجعل المسافة بينهما قصيرة ولا تفيد في المناورات الكبيرة.
وإذا قدّر أن تستأنف عملية التسوية للقضية الفلسطينية من النتيجة التي تنتهي عندها حرب غزة لن يكون هامش الحديث عن التطبيع مغريا في حالتي القبول والممانعة.
لا يعني ذلك التسليم بما تريده الحكومات، لكن لأن ورقة النخبة لم تعد بيد ممن عرفنا عنهم الثقافة الغزيرة والرؤية السياسية العميقة وأحيانا “الغوغائية”، حيث ظهر مؤثرون يُحسبون على النخبة ولا يملكون من الثقافة والرؤية الكثير لمناقشة ملف التطبيع من زوايا دقيقة كما جرى الطرح سابقا، ما يجعل الحديث يأخذ شكلا عشوائيا بعض الشيء، أقرب إلى القياسات البراغماتية – العملية وأبعد من الخيالية التي فرضتها حقبة كان النطق فيها بكلمة تطبيع يدفع البعض إلى رفع حناجرهم وخناجرهم.
تختلف المسميات وفقا للأزمنة، كذلك يتباين التعامل معها من وقت إلى آخر، وإذا كان الدكتور الغزالي حرب رفع صوته مؤيدا للتطبيع ثم رفعه معتذرا عنه، فهذه سمة مرحلة غلبت عليها النواحي العاطفية أكثر من السياسية.
ولا أعلم أيهما أكثر جدوى، لكن ما أعلمه أن المرحلة المقبلة عُرضة لتغيرات كبيرة، لن يكون فيها سؤال التطبيع محرجا أو مخجلا للبعض، فالشكل العملياتي الذي يغلب على الأجيال الجديدة سوف يفرض عدم وضع “تابو” أو محرمات عند المناقشة.