استيعاب النخبة العربية في مصر

مصر قد تواجه موقفا دقيقا ما لم تتمكن من مسايرة التطورات لاسترداد دورها الريادي على الساحة العربية والذي انكمش بشكل واضح وأحد أسباب ذلك التخلي طواعية عن استيعاب النخب العربية.
الاثنين 2022/02/07
مصر واحدة من الركائز الرئيسية لاستقبال النخب المختلفة

تغيرت معالم الخارطة الثقافية العربية كثيرا وبقيت مصر واحدة من الركائز الرئيسية لاستقبال النخب المختلفة، فقد تراجع دور العراق وسوريا ولبنان بحكم الأزمات السياسية والأمنية التي عصفت بهم، بينما ظلت القاهرة قادرة على استيعاب ودعم العديد من الأسماء القادمة من دول عربية عدة.

فتح سؤال وجهه صديق عربي بشأن عدم وجود تأثير ملحوظ للأسماء التي ذهبت إلى مصر واستقرت فيها مؤخرا جملة من الأسئلة حول قدرة القاهرة سابقا على استقطاب الكثير من النخب التي أسهمت في نهضة فنية وثقافية وصحافية، وأسباب غياب هذا الدور حاليا، وكيف نجحت مصر في استقبال ملايين من السوريين والعراقيين واللبنانيين واليمنيين والليبيين والسودانيين دون أن يكون لأي من هؤلاء دور ثقافي واضح؟

يبدو السؤال الذي وجهه الصديق العربي منطقيا قياسا على التاريخ الذي لعبته جاليات متعددة في الحياة الثقافية بالقاهرة، ويكشف البحث فيه عن تحولات في نوعية من استقروا وأهدافهم، وشكل التغيرات التي حدثت في آليات التعامل معهم من قبل مصر.

تستوجب المقارنة الإشارة إلى أن غالبية من جاؤوا إلى مصر خلال عقود سابقة وأسهموا في إثراء الجماعة الثقافية كان حضورهم طوعيا وبحثا عن فضاء يستوعب نبوغهم، حيث كانت مصر وقتها تعج بنشاط فني واسع وتتسم بدرجة أقل من الحساسية في التعامل مع الآخر العربي، وقادرة على فتح المجال أمام الكفاءات من جنسيات مختلفة، فضلا عن انشغالها بالهم الثقافي بشكل عام.

من جاؤوا حديثا تلاحق الكثير منهم آلام بلدانهم الأصلية وعذاباتها السياسية، ولم يكن غالبيتهم من المهمومين بتطوير الفن أو تقديم نوع معين من الثقافة حتى لو امتلكوا جوانب ثرية في المجالين، فانشغال عدد كبير منهم بالأمن والهدوء والاستقرار قلّص مساحة الاهتمام بالإبداع التي كانت لها أولوية في وقت سابق.

كما أن الأجواء السياسية في مصر تغيرت ودخلت عليها تطورات أضعفت البيئة الثقافية التي لم تعد أجندة القائمين عليها تؤمن بأفكار التلاقح والتبادل والانتشار وتبنّي رسالة التنوير التي تلعب فيها النخب العربية المتباينة دورا فاعلا.

من الطبيعي أن تنعكس البيئة على مدى التأثير والتأثر بين مصر والجاليات العربية، ومن الطبيعي أن تظهر ملامح التوجهات السياسية للدولة المصرية على الثقافة والفن والإعلام، فهناك علاقة قوية بين ما توفره البيئة من مساحة للحرية وبين المنتج الثقافي، وثمة علاقة لا تقل أهمية بين الأفكار التي يتبناها النظام ودرجة الانفتاح على الآخر.

أظهرت المهرجانات الفنية التي دشنتها السعودية حجم الإقبال العربي عليها والرغبة القوية في المشاركة، كما أكدت الأعمال الدرامية والبرامج التلفزيونية التي يتم إنتاجها في المملكة عبر المنصات أن هناك انفتاحا

في الشق الأول، لا يزال يقتصر نشاط الكثير من المقيمين العرب في مصر على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، حيث برع البعض في النواحي الاستثمارية وتمكن العديد منهم، خاصة السوريين، من تثبيت أقدامهم وعائلاتهم في مجالات مثل المطاعم والمقاهي والحلويات والملابس والمنسوجات، وهو ما يحقق مكاسب مصرية.

وفي الشق الثاني تنحصر التوجهات في الأهداف التي يريد تحقيقها النظام الحاكم، وتدخل الثقافة والفن ضمنها، لكن من الباب المحلي الذي يخدم مصالحه المباشرة، والتي تحتاج إلى كفاءات ونخب مصرية تقوم بأدوار محددة، ويصعب فتح المجال على مصراعيه لغيرهم لأن جوهر الرسالة المطلوبة يستهدف الجمهور المصري.

يفسر هذا البعد جانبا من تراجع انخراط الكثير من الفنانين العرب في الثقافة المصرية، ناهيك عن تأثيرهم الملموس وسط حسابات سياسية ضيقة، ومن أصبحوا يشاركون في هذه المعادلة يطغى على جزء كبير منهم ما يعرف بالتمصير، أي عاشوا وتكيفوا مع الأوضاع القائمة، ومن مصلحتهم أن تنسجم أفكارهم معها، وظهرت مشاركات للبعض في احتفالات وطنية لإثبات الولاء لها وإضفاء مصداقية على التجاوب معها.

مع ذلك يظل الحضور الثقافي والفني العربي متواضعا في مصر، ومحصورا في نطاق أشبه بالعلاقات العامة أو للحفاظ على بقايا زمن فات كانت فيه القاهرة قبلة للنخب العربية وتقوم بتشجيعها للحضور والتفاعل والنجاح، وأطلق على الفيلم المصري وقتها، بصرف النظر عن جنسيات وهويات المشاركين، الفيلم العربي، كنوع من الإيمان بأن هناك راية واحدة تجمع الممثلين، وهي صفة العروبة.

حدثت قطيعة سياسية بين مصر ودول عربية بعد التوقيع على اتفاقية السلام مع إسرائيل قبل نهاية عقد السبعينات من القرن الماضي، لكنها لم تؤثر بصورة واضحة على النواحي الثقافية والفنية، حيث ظلت القاهرة قبلة لكثير من النخب العربية ولو من قبيل المنافسة التي تعمدها بعض المنتجين لتخفيض أجور النجوم المصريين.

انتهت الكثير من الصيغ والحيل التي ظهرت للتزاوج الثقافي أو المنافسة بين النخب، وبدأ يطفو على السطح تزاوج من نوع جديد ومنافسة أخرى، ففي ظل الدور الكبير الذي تلعبه منصات التواصل الاجتماعي تغيرت المعادلات الثقافية التقليدية.

ويمكن أن تواجه مصر موقفا دقيقا ما لم تتمكن من مسايرة التطورات لاسترداد دورها الريادي على الساحة العربية، والذي انكمش بشكل واضح في الفترة الماضية، وأحد أسباب ذلك التخلي طواعية عن استيعاب النخب العربية والتركيز على نخبها فقط ووضع كل الرهانات على البعض ممن تنسجم رؤيتهم مع أجندة الحكومة.

كشف النشاط الفني لبعض الدول الخليجية، في مقدمتها السعودية، أن هناك تغيرا محتملا في الخارطة الثقافية العربية، فبعد خروج عدد من الدول المحورية في المشرق العربي ستواجه القاهرة منافسة خليجية حادة بعد التحولات السياسية التي ظهرت في بعضها، خاصة أن الإمكانيات المادية التي تملكها تجلعها تقدم إنتاجا غزيرا.

تفتح هذه النقلة المجال لاستقبال النخب العربية وهضمها في أعمال فنية وثقافية عدة، لأن البنية التحتية في هذين المجالين ينقصها الكثير في الخليج، وهو ما يمكن تعويضه بفتح الباب لاستقبال نجوم عرب، بمن فيهم نجوم كبار من مصر.

أظهرت المهرجانات الفنية التي دشنتها السعودية حجم الإقبال العربي عليها والرغبة القوية في المشاركة، كما أكدت الأعمال الدرامية والبرامج التلفزيونية التي يتم إنتاجها في المملكة عبر المنصات أن هناك انفتاحا يمكن أن يؤثر على دور القاهرة الريادي، قد يسحب البساط العربي منها، وربما يفرغها من بعض نجومها.

يضع هذا التطور تحديا ثقافية أمام القاهرة ويفرض عليها أن تعيد الروح إلى الحياة الثقافية والفنية وتدخل تعديلات على الآلية التي تتبناها، فلم تعد المسألة تتعلق باستيعاب نخب عربية أو تهميشها، فالخطر الداهم يمكن أن يصل لاحقا إلى تفريغ مصر من قوتها الناعمة التي راكمتها على مدار سنوات، وتنتقل إلى دول أخرى تستطيع التكيف مع طقوس العالم الجديد، وقادرة على الصرف بسخاء على الفن والثقافة.

9