استكمال حرب التدمير من الموصل والرقة إلى عرسال

يشهد المناخ المرافق لإطلاق معركة جرود عرسال سلسلة من التحولات في أهدافها ومعانيها. وبعد أن كانت المعركة التي ستتيح للجيش اللبناني إثبات قدراته وتوكيد خيار الاستثمار الأميركي والدولي فيه بوصفه القوة الشرعية القادرة على محاربة الإرهاب، بدا الجيش ميالا إلى الإعلان عن عدم مشاركته في هذه المعركة، والاكتفاء بدور ضبط الأمن في عرسال ومنع تسلل المسلحين إليها.
ولا تبدو إشارات رئيس الحكومة سعد الحريري إلى قيام الجيش بعملية مدروسة في جرود عرسال، في ظل تغطية حكومية، قادرة على إزالة كل اللغط الحاصل حول دور الجيش في المعركة. وتنتشر معلومات متضاربة حول شروع حزب الله في نشر وحدات من قوات النخبة بالتنسيق مع الجيش السوري في الجرود تمهيدا لإطلاق المعركة، بالتزامن مع نشر معلومات مضادة تفيد بتأجيل المعركة لعدة أسابيع.
اللافت أن كل هذا يترافق مع مناخ حكومي متفجر شهد تشكيكا بدور الجيش في عرسال ومطالبة النائب خالد الظاهر بإقالة وزير الدفاع، وسط مساع هادفة إلى إقرار سلسلة الرتب والرواتب من خلال فرض مجموعة جديدة من الضرائب، وهو ما علق عليه رئيس الحكومة الأسبق ووزير المالية إبان مرحلة رفيق الحريري فؤاد السنيورة قائلا “للتاريخ أقول من الآن يبدأ الانزلاق”.وفي جميع الأحوال فإن قرار تحديد لحظة المعركة متروك لحزب الله والنظام السوري. ولا يمكن النظر إلى هذه المعركة إلا من خلال عناوينها اللبنانية، إذ أن تأثيرها على مسار الأمور الميدانية في الداخل السوري لا يبدو كبيرا، ما يؤكد أنها معدة للاستثمار في الداخل اللبناني أمنيا وسياسيا بشكل خاص، بحيث يصب في صالح مشروع تفتيت الحضور السني في المنطقة.وجعل المشهد الذي رافق عمليات الجيش الأخيرة في عرسال وما رافقه من مشهدية إذلال السوريين وموت عدد من المعتقلين تحت التعذيب الجيش بالنسبة إلى أهالي عرسال واللاجئين السوريين طرفا غير محايد، أو على الأقل طرفا يمكن التشكيك في وجود اختراقات في صفوفه. وترتفع كذلك نسبة المخاوف من ركوب حزب الله على الموجة، ودخوله إلى عرسال بزي الجيش، وافتعال أزمة بين الجيش وأهالي القرية الذين اجتهد طوال سنوات في شيطنتهم ووصمهم بتهمة الإرهاب.
|
الجيش والشعب والمقاومة
لم تكن من قبيل الصدفة إعادة إحياء ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة في هذه اللحظة، وإذا كانت أجواء معركة عرسال ساهمت في منح ثنائية التنسيق بين حزب الله والجيش مشروعية ما من خلال الدعم المطلق الذي يظهره حزب الله والتيار العوني للجيش رسميا وشعبيا في مقابل دعم رسمي سني للجيش يقابله تخوف شعبي.
وهكذا لم يبق من أركان الثلاثية التي طالما شكلت خطة عمل حزب الله سوى إدماج الشعب فيها، وهذا ما يمكن أن يتيسر بسهولة فهناك الشعب الشيعي صاحب المعادلة الأصلي الذي ينطبق عليه توصيف أشرف الناس المفروض بواقع التغلب ثم الشعب المسيحي المنضم إلى توصيف الشعب بالولاء والتأييد.
دخول الشعب المسيحي في المعادلة مقبول ولكنه مشروط، أما الطرف السني فهو في التوصيف الذي يراد تعميمه، لا يقع خارج ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة وحسب بل يمثل ثلاثية مواجهة أيضا هي حاليا ثلاثية عرسال واللاجئين السوريين والإرهاب يراد لها أن تكون المدخل الذي يفضي إلى صناعة عالمية توحد بين السنة والإرهاب.
تفكيك الحضور السني
كان لافتا تزامن توقيت ارتفاع منسوب التوتر في عرسال وجرودها في انتظار نضوج ظروف إطلاق المعركة أو التوصل إلى اتفاقات تفضي إلى انسحاب عناصر النصرة وداعش مع بروز تصريح وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، والذي يتوجه فيه إلى الإدارة الأميركية برسالة مفادها أنه يجب عليها ألا تنسى أن أحد مدبري هجوم 11 سبتمبر كان لبنانيا، وأن باقي المهاجمين يتوزعون على جنسيات سعودية وإماراتية.لم تكن إشارة ظريف بريئة في دلالتها وتوقيتها على مشارف استحقاقات لبنانية شديدة الأهمية مع قرب الشروع في إطلاق معركة الجرود، وتوجّه رئيس الحكومة سعد الحريري إلى واشنطن في 22 يوليو برفقة قائد الجيش ووفد وزاري في زيارة رسمية.وصدرت تأكيدات عن مسؤول كردي وصف بالخبير في مجال مكافحة الإرهاب أن زعيم داعش أبا بكر البغدادي لا يزال حيا وأنه موجود بنسبة 99 بالمئة في جنوب الرقة السورية. جاء هذا التأكيد الكردي مع ارتفاع وتيرة التصعيد في الرقة والتجهيز لإطلاق معركة تصفية وجود داعش فيها.
يشير هذا المناخ إلى تلازم مريب للمسارات التي تترتب ضمن مشروع واحد هو تكريس هزيمة السنة من عرسال إلى الرقة والموصل. لم تبق منظمة إنسانية في العالم لم تعبر عن استنكارها لجرائم التصفية التي يرتكبها الحشد الشعبي في الموصل، وانتشرت فيديوهات مروعة تعرض لعمليات قذف المواطنين العزل من سطوح الأبنية العالية، وحملات إعدام ميدانية للأبرياء تحت عنوان طائفي.
وترتفع الأصوات الكردية في هذا التوقيت للمطالبة بتسريع إطلاق معركة الرقة التي منحت فيها أميركا قوات سوريا الديمقراطية الكردية تفويضا خاصا في الوقت نفسه الذي ترتفع فيه وتيرة التصعيد في عرسال.
ولا يتوقع أن تسفر معركة الرقة سوى عن تكرار مرير لسيناريو الموصل، كما أن الأكراد لم يتورعوا في مفاصل عديدة عن إعادة إنتاج مشهدية الحشد وحزب الله، ما يدرجهم في سياق مشروع ضرب السنة في المنطقة، فهم لا يعرفون عن أنفسهم بوصفهم سنة ولكن بوصفهم أكرادا، أي أقليات تطمح إلى انتزاع حضورها من خلال تدمير بنية الأكثرية السنية.
وبدا هذا النوع واضحا مع تهديد مستشار مجلس أمن إقليم كردستان مسرور البارزاني، الحكومة الاتحادية بـ”الحرب” لإعلان انفصال الإقليم والمناطق المتنازع عليها وتأكيداته أن “استقلال الأكراد عن العراق لن يهدد أحدا بل سيكون عامل استقرار للمنطقة”.
ولا تمنع الهشاشة الأمنية في عرسال تكرار سيناريوهات دخول حزب الله على خط الأمور عبر عناصر ترتدي بدلات الجيش كما حصل في مفاصل عديدة، وآخر ما تحتفظ به الذاكرة السنية منها هو مشهد معركة عبرا التي أنتجت تصفية حالة الشيخ السني المعترض على حزب الله أحمد الأسير.
حظيت عملية الجيش آنذاك بتغطية سنية، ولكنها خلّفت ندوبا بارزة لم تلبث أن تحولت إلى جروح عميقة مع حملات الاعتقالات التي رافقتها وموت بعض المعتقلين تحت التعذيب وكان أبرزهم حالة نادر البيومي عامل النظافة في مسجد بلال بن رباح الذي كان الأسير يتحصن فيه بعد أن سلم نفسه طوعا إلى الجيش.
إذن يجد أهل عرسال واللاجئون السوريون أنفسهم أمام وضعية انتحارية، فلا يمكن إنكار أن الثقة بالجيش اللبناني قد تزعزعت بعد ما أفرزته مشهدية العمليات الأخيرة من تجاوزات خطيرة، إضافة إلى أن قيادة حزب الله والجيش السوري للعمليات في الجرود ستدفع بالمسلحين في اتجاه عرسال بشكل يناقض ما كان يمكن أن تؤديه مبادرة الجيش اللبناني بالهجوم، وتكليفه وحده دون سواه بمهمة تطهير الجرود.
يصب كل هذا في خدمة استكمال مشروع هزيمة السنة في المنطقة، ووصل الهزائم السنية ببعضها البعض حتى تصبح خارطة الوجود السني في المنطقة هي خارطة المهزومين والمنكل بهم، والذين يتوسلون خلاصا من نير التنكيل والإهدار ولو من خلال خيار داعش أو النسخ المعدلة المطورة التي لا يعرف أحد متى ستعاود الظهور، ولكن الأكيد أن هذا الظهور لن يصب سوى في خدمة مشروع دعشنة السنة والقضاء على فكرة المدينة الإسلامية العربية.
بعد تدمير كبريات المدن الإسلامية العربية السنية تحولت جل العواصم العربية إلى ضواح ريفية. هكذا يتم توكيد المشروع الإيراني في المنطقة من خلال تدمير الحضور السني المرتبط بالمدن والإصرار الشرس على تعميق سلطات منطق البداوة.
تتجلى أبرز مظاهر البداوة في ذلك الانتشار الهيستيري لثقافة “عبادة” العسكر في المنطقة عموما وفي لبنان خصوصا، بشكل مريع يخالف في طبيعته مرجعية العيش المديني وشكله، ويتخذ لبنانيا صيغة صناعة أوهام قومية لبنانية تواجه الغريب السوري والفلسطيني والتي شكلت سابقا المرجعية التي أطلقت شرارة الحرب الأهلية.
كاتب لبناني