استقالة باتيلي تعيد الأزمة الليبية إلى المربع الأول

لم تكن استقالة المبعوث الأممي إلى ليبيا عبدالله باتيلي مفاجأة في حد ذاتها إذ كانت الوقائع والأحداث تسير به إلى ذلك، لكن الاستقالة تأتي لتؤكد أن لا أحد في ليبيا على استعداد لتقديم الصالح العام وأن دعائم المصالحة لا تزال غائبة.
طرابلس - يواجه الوضع في ليبيا مزيدا من التعقيد بعد إعلان المبعوث الأممي عبدالله باتيلي استقالته من منصبه وتأجيل مؤتمر المصالحة الوطنية إلى أجل غير مسمى وفشل حكومة عبدالحميد الدبيبة في الإيفاء بوعودها، سواء المتعلقة بإخلاء العاصمة من الجماعات المسلحة أو المتصلة بإعادة فتح معبر رأس جدير الحدودي المشترك مع تونس والمغلق منذ 19 مارس الماضي.
وأعلن باتيلي استقالته، معتبرا أن المنظمة الأممية “لا يمكن أن تتحرك بنجاح” دعما لعملية سياسية في مواجهة قادة يضعون “مصالحهم الشخصية فوق حاجات البلاد”.
كما أعلن تأجيل مؤتمر المصالحة الوطنية الليبية، الذي كان مقررا عقده في 28 أبريل الجاري بمدينة سرت، إلى أجل غير مسمى.
ويرى مراقبون أن استقالة باتيلي جاءت لتؤكد فشل المجتمع الدولي في حلحلة الأزمة الليبية رغم أنه كان وراء تعميقها من خلال التدخل العسكري المباشر في العام 2011، ولتشير إلى حقيقة فرضت نفسها على الواقع الليبي، وهي أن حالة الانقسام على أساس المصالح والحسابات الشخصية والجهوية والمناطقية والقبلية لا تزال تتسع مع إصرار كل طرف على تشكيل كيان خاص به في مناطق نفوذه، وعدم استعداده للتنازل عن مصالحه وتقديم المصالح الوطنية.
حالة الانقسام لا تزال تتسع مع إصرار كل طرف على تشكيل كيان خاص به في مناطق نفوذه وعدم استعداده للتنازل
وخلال إحاطته أمام مجلس الأمن قال باتيلي إن الجيش الوطني الليبي يمثل دون منازع سلطة اتخاذ القرار في الأمور السياسية والعسكرية والأمنية في شرق وجنوب ليبيا، وحكومة أسامة حماد هي جناحه التنفيذي. وقال “في حين تعمل بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا ووكالات الأمم المتحدة وصناديقها وبرامجها على إشراك الحكومة المدعومة من مجلس النواب لاسيما في القضايا المتعلقة بالمساعدات الإنسانية وإعادة إعمار درنة، فإن هذه الإدارة ليست، بمفردها، واحدة من المؤسسات الرئيسية التي يلزم الحصول على تأييدها من أجل تسوية سياسية لتمكين الانتخابات. إن تخصيص مقعد منفصل على الطاولة للحكومة المدعومة من مجلس النواب من شأنه أن يضفي الطابع الرسمي على الانقسامات في ليبيا”.
أما بالنسبة إلى حكومة الوحدة الوطنية التي شكلت كنتيجة لعملية يسرتها البعثة في أعقاب التوافق في مؤتمر برلين الدولي عام 2021، فقد لاحظ باتيلي أنها “رسخت نفسها كطرف رئيسي في الغرب، رغم أنها تواجه تحديات متزايدة من قبل القوى المتنافسة المتنامية. إن توسيع دور حكومة الوحدة الوطنية إلى ما هو أبعد من إجراء الانتخابات الموعودة يكشف حدود هذا الدور ويدفع معارضيها إلى التشكيك في شرعيتها. ومع ذلك، تبقى هي الحكومة الليبية المعترف بها دوليا في المرحلة الانتقالية الحالية”.
وشدد باتيلي على أن “الشروط المسبقة التي يضعها القادة الليبيون تقف على النقيض مما يظهرون من نية لإيجاد حل للنزاع يقوده الليبيون ويمسكون بزمامه. فحتى هذه اللحظة، لم تبدر منهم أية بادرة تظهر حسن نواياهم، فيما تشتد هواجس عامة الشعب إزاء تضاؤل التوافق الدولي تجاه ليبيا جراء تحول بلدهم إلى ساحة يحتدم على أرضها التنافس بين الأطراف الإقليمية والدولية المدفوعة بمصالح جيوسياسية وسياسية واقتصادية بالإضافة إلى التنافس الذي تجاوز حدود ليبيا وطال الجوار. ونتيجة للتكالب المتجدد بين اللاعبين، سواء داخل البلاد أو خارجها، على ليبيا وموقعها ومواردها الوافرة زادت صعوبة الوصول إلى حل”.
وفي أول رد فعل رحّب رئيس الحكومة المنتهية ولايتها عبدالحميد الدبيبة بما جاء في إحاطة المبعوث الأممي، وقال “أذكّر بموقفنا الثابت المتمثل في ضرورة تسريع الجهود للوصول إلى عملية انتخابية نزيهة وشفافة تقوم على قاعدة دستورية عادلة، تضمن مشاركة جميع الأطراف دون إقصاء أو تمييز”. وتابع “أضمّ صوتي لما ذكره باتيلي بأن ما تقوم به بعض المؤسسات من تعطيل الانتخابات يعد خطرًا على مستقبل بلدنا، وأشاركه أن حالة السخط والغضب العام بشأن زيادة الضريبة على النقد الأجنبي مازالت قائمة، وأجدد دعوتي إلى الإسراع في إلغائها وعدم تحميل المواطن تكلفة الإنفاق المنفلت”، معتبرا أن الإحاطة أكدت على أهمية الحفاظ على وحدة البلد، وعدم تعزيز حالة الانقسام بخلق مسارات تؤدي إلى تقويض جهود حل الأزمة، وتحول دون الوصول بالبلد إلى الانتخابات عبر طاولة الحوار، وفق قوله.
وقالت الحكومة المنبثقة عن مجلس النواب برئاسة أسامة حمّاد إن إحاطة باتيلي أمام جلسة مجلس الأمن عكست واقع عدم تمكنه من أداء عمله طيلة السنوات الماضية بشكل يعكس تطلعات المجتمع الدولي، ممثلًا في هيئة الأمم المتحدة لحل المشكلة الليبية ، وأوضحت في بيان أن إحاطة باتيلي احتوت على ما يؤيد موقفها تجاه ممارساته السابقة والخاطئة، والتي تدل على انحيازه الدائم لطرف دون آخر، وفشله المستمر في جمع جميع الأطراف الليبية في نطاق تصالحي واحد.
وحول استقالة المبعوث الأممي إلى ليبيا قال “تكتل إحياء ليبيا” برئاسة الدكتور عارف النايض إن استقالة باتيلي لعلّها تكون فرصة حقيقية لاستعادة جامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي لزمام المبادرة في الجمع بين الأطراف الليبية، للتعجيل بتشكيل حكومة الاستحقاق الانتخابي الجديدة، بحيث يمنح البرلمان الليبي الثقة للحكومة التي ينسق بشأنها مع مجلس الدولة، ويقدم إلى مجلس الأمن مباشرة طلب الاعتراف الدولي بها، دون وساطة البعثة الأممية.
ودعا وزير العدل الأسبق، ونقيب المحامين محمد العلاقي، الفاعلين على الأرض إلى إنقاذ ليبيا، وقال في منشور عبر فيسبوك “ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة… هكذا أعلن باتيلي عن فشل اللقاء الخماسي وكنا توقعنا فشل ذلك اللقاء المزمع عقده لأن كل الأجسام التي دعيت له تفتقد للشرعية القانونية ولا تريد الوصول إلى حل أصلا واستمرأت بقاءها في السلطة دون أي مبرر”، مردفا “الدعوة موجهة بكل صراحة للفاعلين على الأرض لإنقاذ البلد. اللهم إني قد بلغت اللهم فاشهد”.
استقالة باتيلي جاءت لتؤكد فشل المجتمع الدولي في حلحلة الأزمة الليبية رغم أنه كان وراء تعميقها من خلال التدخل العسكري المباشر في العام 2011
واعتبر الناشط الإعلامي المقرب من الميليشيات ناصر عمار أن “الوضع في ليبيا لن يستقر إلا بطاغية يحكم بالحديد والنار”، وأضاف “أما الحكم الجهوي والقبلي فيتشظى فيه الوطن بين القبائل، ويصبح فيه الشعب تائها ومحروما بين المسميات المسيطرة على مفاصل الدولة”.
وأبدى رئيس المؤسسة الليبية للإعلام محمد عمر بعيو سعادته برحيل المبعوث الأممي قائلا “وأخيرا.. غادر باتيلي ميدان الفوضى الليبية بعد أن عاث فيه عبثا 19 شهرا، وستخلفه الأميركية – اللبنانية ستيفاني الثانية لتستمر ملهاة ومأساة نصف القرن من التيه والضياع في بلدٍ ترك فيه شعبه مصيره بأيدي العابثين واختار الجلوس على هوامش الوجود ومتون العدم.. وا حسرتاه ليبيا”.
ولا تستبعد أوساط ليبية أن يكون باتيلي تعرض لضغوط شديدة من واشنطن لتقديم استقالته، وذلك في سياق الترتيبات التي تعدها الإدارة الأميركية لتشكيل ملامح الوضع الليبي بما ينسجم مع طبيعة صراعات النفوذ القائمة سواء في الداخل الليبي أو في المنطقة ككل.