استعراض حمّال أوجه لعمرو موسى أكثر منه مذكرات

سنوات من العواصف السياسية للجامعة العربية من حكم صدام إلى سقوط القذافي.
الأحد 2020/12/13
مسيرة سياسية حافلة

مذكرات عمرو موسى في جزئها الثاني، تظهر أن الأمين العام للجامعة العربية يركز على رؤيته إلى الأحداث ودوره فيها أكثر من رواية ما جرى كما هو، ما حوّلها إلى نوع من السيرة الذاتية يتمركز حول الكاتب وليس حول الحقائق التي يفترض أن تسردها المذكرات بنوع من الحياد.

انتظر كثيرون قيام الأمين العام لجامعة الدول العربية الأسبق عمرو موسى، تسجيل تجربته حول السنوات العشر التي أمضاها على رأس كيان يجمع كل الدول العربية تحت مظلته وهي سنوات عاصفة وحافلة بالتطورات، ومليئة بالأحداث المفصلية التي كان موسى شاهدا عليها، وسببا في ما وصلت إليه الجامعة من تحديات صعبة.

أصدرت دار الشروق المصرية، الجزء الثاني من مذكرات عمرو موسى قبل أيام، بعنوان “سنوات الجامعة العربية”، بعد أن نشرت الجزء الأول منذ ثلاث سنوات بعنوان “كتابيه”، ورصد فيه موسى رحلته من الميلاد وحتى ترك عمله كوزير لخارجية مصر، وأثار جملة من ردود الفعل في حينه، بعضها أنصفه، والبعض جاء في غير صالحه، وفي الحالتين كانت لها قيمة في كشف جوانب من تفكير الرجل.

يبدو للوهلة الأولى في الجزء الثاني من مذكرات عمرو موسى أنه -والفريق المعاون له- بذل جهدا كبيرا في الشكل والتوثيق ليضفي المزيد من المصداقية على مضمون شهادته، لكنه من حيث أراد تأكيد هذه الميزة ارتكب خطأ عزز انطباعات الكثيرين حوله بشأن غرامه الكبير بالاستعراض السياسي، وهي نقطة تؤخذ عليه ولا تحسب له، فكان يكفيه الإدلاء بشهادته كقامة كبيرة، طالما أنه واثق في نفسه، وعلى من يشككون فيها مواجهته أو الحوار مع المصادر المعاصرة.

ربما أراد موسى أن يختصر المسافات على القارئ وتسهيل مهمته، وربما أن القضايا التي يتحدث فيها مثيرة وحساسة وتهم دولا وزعامات وقامات كبيرة، وربما وربما..، المهم أنه طوال 575 صفحة من السرد والشهادات والوثائق والصور، يلازم القارئ الشعور بأن عليه التسليم بقيمة صاحب المذكرات كأفضل سياسي، وأنه نزيه بما يكفي، وعروبي أكثر من غيره، وحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وفشل بدرجات متفاوتة.

ولجأ عمرو موسى إلى إصدار شهادته، وهو على قيد الحياة (متعه الله بالصحة والعافية) ليؤكد شجاعته، وهي الصفة التي كان حريصا على أن يبرزها بين السطور وفي ثنايا مواقف كثيرة، فهو أول من تحدث بصراحة نادرة مع الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، قبل حدوث الغزو الأميركي في مارس 2003، ويكاد يكون تحصل منه على “شيك سياسي على بياض”، ليتحدث باسمه مع سكرتير عام الأمم المتحدة الأسبق كوفي عنان.

وأوحى أنه وقف في مواجهة قوى دولية مختلفة لمنع انحراف الأزمات العربية، وفي المرات القليلة التي توقف فيها عند بعض الزعامات والقامات العربية، مثل الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، و العاهل السعودي الراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز، والرئيس الراحل حسني مبارك، كانت ظلال موسى حاضرة أيضا، باعتباره الأمين الأول على العمل العربي المشترك.

شهادات من قلب الحياة

توثيق لمسيرة طويلة
توثيق لمسيرة طويلة

المثير أن عمرو موسى قص جوانب عديدة من جولاته المكوكية في الأزمة العراقية في ذلك الوقت، وقام بمحاولات مضنية على حد وصفه، مع ذلك جرى الغزو وتدمير مقدرات العراق، باعتبار أن النية كانت لدى واشنطن قوية،
وهي نفسها التي تكاد تكون لازمته في غالبية الأزمات التي انخرط فيها عن قرب أو عن بعد، وهو ما تكشفه المذكرات عندما يأتي الحديث عن الأزمات العربية التي عاصرها.

حرص موسى، بمساعدة محرر المذكرات الصحافي المصري خالد أبوبكر، على الإشارة إلى أنه يعرض ما جرى كما جرى، ونسي أن يضيف إليها جملة مهمة “من وجهة نظره”، لأن التقييم السياسي للكثير من الأحداث يختلف من شخص إلى آخر.

ويظل ما خطه الأمين العام للجامعة العربية، في النهاية حمّال أوجه حتى لو كان الرجل حشد مجموعة كبيرة من الشهادات والبيانات والقصاصات والروابط الإلكترونية والوثائق لتعزيز رؤيته، فهناك من يستطيعون تقديم أكثر منها، وهذا ليس تشكيكا في المذكرات، لكنّه توصيف لواقع مغرم بالأشكال والألوان.

قدم عمرو موسى في 19 فصلا، سردية سياسية مهمة في ظل قلة السرديات عن الفترة التي شغلها في الجامعة العربية (2001-2011)، وهذا يحسب له، لكن ما يؤخذ عليه أنه تعامل مع هذا الكيان كأنه مؤسسة قادرة على ضبط السلوك العربي، وفي الوقت الذي يعلم الجميع أنها تعاني مشكلات هيكلية، منحها موسى صك القداسة والبراءة خلال فترة رئاسته.

مذكرات عمرو موسى تظل نوعا من الشهادات المنمقة التي أسرفت في التبرئة والتفسير أكثر من تقديم رؤية سياسية لعصر متلاطم

قدم كلمات تشي بأنها كيان عملاق مثل الاتحاد الأوروبي، حيث ذكر أن الجامعة خلال فترة رئاسته، “ضبطت أدبيات وفعاليات العمل العربي المشترك، وصاغت مواقف العرب السياسية بعد دخول العالم مرحلة السيطرة الأميركية المنفردة، وصاغت هذه المواقف سواء ما تعلق بالقضية الفلسطينية أو إقامة منطقة منزوعة السلاح النووي في الشرق الأوسط، أو الموقف من إيران وتركيا”.

حاولت العثور على اعتراف بفشله بوضوح في أي من الأزمات التي انخرط فيها فلم أجد، والأدهى أنه قال، إن العمل العربي المشترك، والجامعة العربية تمثل قاعدته المتينة، لم يكن قط فاشلا، كما لم يكن ناجحا بالدرجة التي تمناها وتطلع إليها، مشيرا إلى أنه “قدم الكثير”، والجامعة خلال فترة رئاسته لم تكن كيانا “هشا”، كانت شريكا “قويا”، يعلم بالضبط نقاط قوته، ويحاول علاج نقاط ضعفه.

كنت أتمنى أن يكون عمرو موسى، صاحب الكاريزما السياسية، جريئا بما يكفي ليفسر الأسباب التي جعلت الجامعة بطة عرجاء خلال فترة رئاسته، قد يتلمس القارئ الحصيف بعضها ويعلم وتفاصيلها، لكن أن تأتي منه سيحسب له وجرأته الظاهرة، لأن الاكتفاء بوصف ما جرى ليس كافيا، فالتشخيص الصحيح جزء مهم لعلاج الداء.

تمادى عمرو موسى في إحساسه العالي بالذات وتورمها أحيانا، وهي صفة معروفة عنه، فهو السياسي البارع والمنظر الذي لا يشق له غبار، وقال “فخور بتلك السنوات السمان في أداء الجامعة، ولو قدر لها استثمار المبادرات لحققت طفرة في النظام العربي والتحرك القومي”، وحتى الثورات والاحتجاجات التي انطلقت نهاية عام 2010، وبداية عام 2011، قال إنه حذر منها، مع أن هذه الثورات هي التي مهدت الطريق ليكون مرشحا رئاسيا في مصر.

نوه في مقدمة كتابه “سنوات الجامعة العربية”، أن الجزء الثالث من المذكرات سوف يتناول فيه الثورات العربية، ويركز على الفترة التي كان حاضرا فيها على المسرح السياسي المصري (2011 - 2014)، والتي ترشح فيها لرئاسة الجمهورية وحل فيها ثالثا،ولا أعلم ماذا سيكتب عن هذه الفترة بعد أن انجلت الكثير من الأمور.

عندما صدر الجزء الأول من مذكراته “كتابيه”، بدا كمن يقدم نفسه بأنه هنري كيسنجر العرب، الذي تقاعد منذ فترة طويلة وبقيت إسهاماته السياسية حاضرة، هكذا ساد انطباع لدى الكثيرين، وبصرف النظر عن الاتفاق والاختلاف والقدرات والإمكانيات والأدوار، فإن وزير خارجية مصر الأسبق يبدو مغرما بهذا التشبيه، وإن لم يعلنه أو يرفضه، حيث يضعه في مصاف السياسيين في العالم.

والفرق بينهما أن إسهامات كيسينجر تجاوزت حدود المذكرات والشهادات على الأحداث التي عاصرها وشارك فيها بالفعل، إلى مستوى رفيع من التنظير الذي لم ينضب، ما يحاول موسى تقديمه في الحوارات والتصريحات التي يدلي بها، لكنه لم يقدم مرجعا حتى الآن في أيّ من القضايا الحيوية التي مر ويمر بها العالم العربي.

لا أحد يقلل من قيمة عمرو موسى كسياسي بارع وله تاريخ حافل، ولا أحد يستطيع التشكيك في تكوينه العروبي المتين، غير أن المشكلة التي لم تبارحه في المذكرات والمواقف، أنه عندما يأتي ذكر الأزمة الليبية، يتحسس رأسه، كأن به جرحا، فقد لازمه الاتهام بأنه تواطأ لتسهيل عملية ضرب حلف الناتو وإسقاط نظام العقيد معمر القذافي.

وقفة تأمل مع ليبيا

ما يؤخذ على موسى أنه تعامل مع الجامعة العربية كأنها مؤسسة قادرة على ضبط السلوك العربي، وفي الوقت الذي يعلم الجميع أنها تعاني من مشكلات هيكلية، منحها موسى صك القداسة والبراءة خلال فترة رئاسته
ما يؤخذ على موسى أنه تعامل مع الجامعة العربية كأنها مؤسسة قادرة على ضبط السلوك العربي، وفي الوقت الذي يعلم الجميع أنها تعاني من مشكلات هيكلية، منحها موسى صك القداسة والبراءة خلال فترة رئاسته

حكى الرجل الكثير من القصص والأحداث في الفصل الخامس عشر، بعنوان “أسرار القرارات العربية لحماية الشعب الليبي”، ليقدم شهادة يعتبرها موثقة على أنه بريء من دم الشعب الذي أريق، ولا يزال يراق، وبدت سرديته مقنعة لكل ذي عينين، وهو ما ظهر في حرصه على استخدام كلمة أسرار في الجزء الليبي، مع أنه تحدث مرارا حول دوره، وفي كل مرة أخفق في إزالة الصورة الذهنية السلبية التي ألصقت به.

تعامل الأمين العام مع الفصل الخامس عشر بحساسية شديدة لتبرئة ساحته، ومحاولة إزالة أي التباس، فلا شيء يبقى له بعد ذلك إذا فشلت مذكراته في تقديمه بالصورة التي يريدها بالنسبة إلى الأزمة الليبية، وتُجلي ما يراه غبنا لمسيرته الطويلة.

في الصفحة 423 بدأ يقترب من تفاصيل الاجتماع الوزاري الطارئ لمجلس الجامعة العربية في 12 مارس 2011، قائلا “يجب أن أنقل للقارئ عموما، وللشعب الليبي الشقيق بأجياله الحالية والقادمة، ما جرى من واقع النصوص الحرفية لمحاضر جلساته من دون تدخل أو محاولة تفسير أو تحليل، وأقتبس فقرات تعبر بجلاء عن موقف الدول العربية الأعضاء”.

أفرط في تبرئة ساحته بكل وسيلة من تهمة لم تبارحه، على الرغم من النفي والتبرير والتوضيح المتكرر، خاصة بالنسبة إلى موضوع فرض حظر جوي، والذي أثار جدلا كبيرا، لأن المطالبة به جاءت من قبله، وحث الجامعة على إصدار قرار من مجلس الأمن، بذريعة الحيلولة دون قيام القذافي بضرب المتظاهرين.

أشار موقف الجامعة العربية نصا إلى “الطلب من مجلس الأمن تحمل مسؤولياته إزاء تدهور الأوضاع في ليبيا، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بفرض منطقة حظر جوي على حركة الطيران العسكري الليبي فوريا، وإقامة مناطق آمنة في الأماكن المتعرضة للقصف، كإجراءات وقائية تسمح بتوفير الحماية لأبناء الشعب الليبي، والمقيمين في ليبيا من مختلف الجنسيات، مع مراعاة السيادة والسلامة الإقليمية لدول الجوار”.

يبدو النص يحمل الكثير من الوجوه والتفسيرات، أو بمعنى أدق غير مقنع، وبدلا من أن تتحمل الدول العربية التي صاغته المسؤولية، تحملها عمرو موسى وحده، فقد ألمح الرجل في ثنايا شهادته إلى ما يشبه المؤامرة الكونية عليه في هذه القضية، كي لا يكون بعيدا عن ضرب ليبيا، والتي تاهت معها الكلمات التي نقلها عن وزراء الخارجية العرب، والشهادات التي حشدها لمندوب ليبيا في الأمم المتحدة عبدالرحمن شلقم.

احتل الجزء الليبي مساحة من التفسير والتبرير والتكرار، مقارنة بغيره، وهذا مفهوم في ظل السياقات المختلفة التي جاء فيها ذكر موسى كـ”مذنب” في حق ليبيا، وهو ما نفاه بكل السبل، إلى الدرجة التي استعان فيها بأجزاء من مذكرات وزيرة الخارجية الأميركية سابقا هيلاري كلينتون، حيث اقتبس منها ما يفيد أن هناك مؤامرة لضرب ليبيا، وتدمير مقدرات الشعب.

ولفت إلى أن بعض الدول العربية أبدت استعدادا للانضمام لأي جهد عسكري غربي (أوروبي) لتأكيد الحظر الجوي الذي أمر به مجلس الأمن في قراره رقم 1973، ووجد عمرو موسى في العبارة التي حواها القرار “اتخاذ التدابير اللازمة لحماية المدنيين” بمثابة القنبلة التي فخخت قرار مجلس الأمن، وأدت إلى التدخل العسكري في ليبيا، وبالتالي الانحراف عن النوايا الحسنة للمطالبة العربية بحظر الطيران.

عمرو موسى والفريق المعاون له بذلوا جهدا كبيرا في الشكل والتوثيق، ليضفي المزيد من المصداقية على مضمون شهادته

إمعانا في البراءة، قال موسى “لم يتم أي تنسيق مع الأمين العام للجامعة العربية، حيث رفض أن يجلس في أي محفل تنسيقي بعدما اكتشف الخديعة.. وأن الجامعة لم تطلب حماية المدنيين من طيران القذافي ليتعرضوا لهجمات التحالف”، مع أن قرار مجلس الأمن رقم 1973 أشار إلى دور له في الإشراف على تنفيذ القرار في الفقرات، 6 و7 و8 تحت عنوان “منطقة حظر الطيران”.

تحدث عن اجتماع 19 مارس 2011 في باريس، الذي اتخذ فيه قرار ضرب ليبيا بطائرات الناتو، والإصرار على الإطاحة بنظام القذافي، بالقول إن مسألة المدنيين كانت بالنسبة إلى المجتمعين “حصان طروادة لتدخلهم في ليبيا”.

يخرج كل من يمعن في قراءة الكتاب - المذكرات بأن عمرو موسى قدم جهدا خارقا، وكان يحارب طواحين الهواء، وأنه السياسي العربي الأبرز الذي جعل للجامعة مكانة لا تُضاهى، وهو ما ينسبه لنفسه بشكل رئيسي وليس للعمل العربي المشترك، الذي يعد الأمين العام نتاجا له، في إيجابياته أو سلبياته.

وبما أن العمل العربي المشترك خلال سنوات موسى، وما بعدها، لم يكن على يرام إطلاقا، فأتعجب من أين أتى بالحديث الذي اختتم به شهادته، وفيه أشار إلى أن الجامعة وصلت إلى درجة من الاعتراف الدولي بما لم تصل إليها من قبل.

من شدة ثقته المفرطة واعتزازه بنفسه لحد الغرور، قال “كان ممكنا لي في هذا المحفل (قمة الدول الثماني) بصفتي الأمين العام للجامعة العربية أن أجلس على مائدة تضم مجلس إدارة العالم، وأتمكن من الحديث المباشر مع أي منهم في أي أمر يخص العالم العربي”.

إذا كان عمرو موسى بهذه القوة المعنوية الجبارة والصرامة السياسية الفذة، لماذا لم يتمكن من تحقيق إنجاز لافت في أي من التطورات والأزمات التي انفجرت في عهده، في العراق ولبنان والسودان وفلسطين، وغيرها، الإجابة التي يعثر عليها القارئ، تقول إنه فعل كل شيء لإنقاذ العرب، لكنه لم ينقذ شيئا.

سوف تظل مذكرات عمرو موسى نوعا من الشهادات المنمقة التي أسرفت في التبرئة والتفسير أكثر من تقديم رؤية سياسية لعصر متلاطم، كان مقدمة لما وصلت إليه الجامعة العربية من تدهور، وأثبت أن شخصية الأمين العام مهما كانت كاريزميتها لن تستطيع تغيير الدفة بمفردها، فالجامعة حاصل ضرب الدول الأعضاء، وليس حاصل جمع مؤهلات من يقودها مؤسساتيا.

4