استحضار إنساني لجرائم الحروب

وجدت مناسبا الحديث في مقدمة هذه السطور بلغة المشاعر الإنسانية قبل الانسياق بنقل والتعليق حول الأحداث الكبرى، كالحرب القائمة حاليا في أوكرانيا، وفق لغة سرديات السياسة ونفاقها وكذب الحكام على شعوبهم وشعوب العالم من أجل المصالح المتغيّرة. لغة المشاعر الإنسانية الجامعة للبشر حيث يدافعون عن حياتهم، لغة هي الأصدق حتى وإن كان الصدق مُغيّبا في لحظات الحرب والموت.
قواعد التعبير الإنساني تنطلق من أحاسيس المشاركة الحقيقية تجاه الموت والألم، أهمها قاعدة التشبث بالحياة ورفض القتل والتدمير وإدانة القتلة والجلادين. قد تتفاوت درجات التعبير عن الألم اللحظي أو المتراكم من جريمة القاتل، كما في حالتي العراق وأوكرانيا، لكن النتيجة واحدة.
طالعتُ ومعي الكثير الذين عاشوا يوميات الموت في العراق بسبب غرور الزعامة، لكن الأقسى ذلك الحقد الدفين على شعب العراق وشعوب المنطقة كسوريا وفلسطين من قوى لا علاقة لها بشعارات الولايات المتحدة القديمة بحقوق الإنسان، ففتحت أبواب الحرب على هذا الشعب وتنقلت في أساليبها؛ أبشعها الحرب المتواصلة منذ الثاني من أغسطس 1990 التي ابتدأت بالحصار الشامل الظالم، ثم فتح لهيب جهنم في السابع عشر من يناير 1991 بعد حشد تحالف جائر من 36 دولة، تلاها الغزو عام 2003 الذي يعيده إلى الذاكرة غزو روسيا لأوكرانيا الآن.
أنزلت حمم الدمار والموت على عاصمة العراق ومدنه ضمن مشروع تدمير العراق شعبا وكيانا، لمنع هذا الشعب من مواصلة حياته وفق حقوقه الإنسانية المشروعة، التي سطّرتها منظمات ما بعد الحرب العالمية الثانية زورا وكذبا، وتمريرا لمصالح الكبار أو الحالمين بالاصطفاف إلى جانبهم. العراقيون لديهم من التجربة الهائلة ما يكفيهم ليملأوا رفوف مكتبات توثيقية، مرئية ومكتوبة، لتراجيديا الموت والكذب والتلاعب بالقيم بما يخدم المصالح الأنانية حتى لو قتل الملايين ودمرت أحلى العواصم والمدن في العالم.
كان المثال الدامي الأكثر بشاعة قصف ملجأ العامرية ببغداد في الثالث عشر من فبراير 1991، حيث قتل 400 مدني بينهم نساء وأطفال وكبار السن الذين احتموا في الملجأ من نار الصواريخ اللئيمة، تحت تبرير أنه مركز قيادة حكومي، وقصف العاصمة بغداد وتدمير بنيتها التحتية. ولا يتردد بوتين اليوم من القيام بجريمة مماثلة تحت ذات التبرير. دائما ما يجد القتلة والمغامرون ذريعة لجرائمهم.
الغزو واحد، لا فرق بين غزو أميركي وآخر روسي، كلاهما بلا رحمة، لكن الضحية في بلاد العرب لا تجد من يصرخ من أجلها. حرمت حتى من وجود الملاجئ التي تحمي الناس من القصف
الغزو الأميركي للعراق عام 2003 انطلق من عقل جورج بوش المُشبّع بالغيبيات عن يأجوج ومأجوج، في بابل المهددة للعالم الأوروبي الجديد، حسب زعمه. ذات دوافع الزعامة المريضة المثخنة بدوافع القتل والتدمير يطبقها القيصر بوتين اليوم في غزوه البشع لأوكرانيا، في استحضار لعودة روسيا إلى البحث عن النموذج الإمبراطوري الذي ورثته عن الإمبراطورية البيزنطية القديمة، نموذج يتكئ على الأرثوذكسية في النظر إلى العالم المحيط والتعاطي معه.
تناقضات تفضح تلك القوى التي تدوس الإنسانية تحت أقدامها لأجل تحقيق مصالحها، وتستخدم كل أشكال الكذب والتزوير كي تصل إلى مبتغاها، ولنا أن نتذكّر هنا أسطورة أسلحة الدمار الشامل التي اخترعها جورج بوش ومعه توني بلير لتبرير غزو العراق، وتبرير بوتين لحرق المدن السوريّة بادعائه “إن نظاما شرعيا قد استدعاه لتنفيذ المهمة”، وأخيرا مبررات غير مقنعة لغزو أوكرانيا.
تفتح حرب روسيا على أوكرانيا أبواب ذكريات إنسانية لشباب عراقيين هجروا وطنهم بعد عام 2003 بحثا عن الأمن والعمل، بعضهم قصد أوكرانيا في اعتقاد أنها ذلك المكان الآمن، بعد غلق أبواب أوروبا والولايات المتحدة بوجوههم. الشاب العراقي مرتضى العامري مثال أبت الحرب إلا ملاحقته مجددا، بعد أن استقر وتزوج فتاة أوكرانية من القرم، قبل ضمها لروسيا قبل ثماني سنوات، وأصبح لديهما أطفال، لكن زوجته وأبناءه ممنوعون من زيارة أهلها باعتبارها أراض روسية، أصبحت العائلة كلها منفية الأب نفته الحرب في العراق والأم نفتها حرب القرم.
في كييف يعيش العامري تجربة مختلفة هذه المرة مع الغزو الروسي، فلأول مرة يعرف ماذا يعنيه أن يتجمع البشر في الملاجئ تحت الأرض للحماية من الغارات، هذا لم يكن يحدث في بلاده التي عاشت حروبا طويلة حيث كان أقصى ما يحدث فيها أن تتجمع العائلة في غرفة واحدة في المنزل. بعد أيام قليلة من بداية هذه الحرب لا يفكر العامري خلال مقابلته لإحدى القنوات العربية في العودة بزوجته وطفليه إلى العراق هربا مما يحدث في أوكرانيا.
قرر وزوجته وأطفاله مغادرة أوكرانيا إلى مكان أكثر أمنا فتوجهوا إلى بولندا.
يحضر هذه الأيام مثالان إنسانيان يعكسان همجية قادة الاحتلال والغزوات.
الأول، يعود إلى أيام الحصار الأميركي على العراق عام 1991 وما بعده الذي قتل خلاله أكثر من نصف مليون طفل عراقي جوعا ومرضا. استذكرت الصحافية الأميركية إيزابيل كومار وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت عام 2016 وتصريحاتها المشينة حول الحصار على العراق، بما معناه “قتل خمسمئة ألف طفل عراقي كان أمرا يستحق ذلك”. أحدهم قال كيف يمكن لمادلين أولبرايت تبرير وفاة نصف مليون طفل عراقي ثم يمكنها النوم ليلا. أجابت، بعد عشر سنوات “لقد سبق لي الاعتراف بأن هذا هو أغبى شيء قلته”.
هذه هي قوى المقاومة والممانعة، أيدت غزو بوتين لسوريا وقتله مئات الألوف من السوريين وتشريد الملايين وتدمير مدنهم، لاستمرار حكم بشار الأسد
المثال الثاني مكانه موسكو، حيث يحاول وزير الخارجية الروسي المُبرمج من قبل سيده بوتين في مؤتمراته الصحافية لتبرير غزو بلاده لأوكرانيا، سألته الصحافية البريطانية وبدت على وجهها تعابير الحزن: كيف تستطيع النوم وأنت تعلم أن القنابل الروسيّة تقتل الأطفال؟ ردّ ببرودة وجمود وجهه المحُنط بأن كل العمليات العسكريّة تؤدّي إلى خسائر في صفوف المدنيين بجانب العسكريين، وأن الجيش الروسيَّ لديه تعليمات بتجنّب إصابة المدنيّين. ردّت عليه بأن المئات من المدنيّين لقوا حتفهم رغم ذلك، ثم سألته كيف سيدافع عن نفسه أمام محكمة الجنايات الدوليّة، ليرد بأن روسيا ليست هي من اخترع تعبير الأضرار الجانبيّة في الحرب بل الغربيّون خلال مغامرتهم في العراق. نعم كلاهما يقترف جريمة قتل الأبرياء ثم يبررها بأوهام سياسية.
على هامش جريمة غزو أوكرانيا غير المبررة على الساحة العراقية، يأبى الولائيون قتلة شباب العراق إلا التعبير عن انحيازهم غير المبرر والمبالغ في تأييد الموقف الإيراني تجاه الحليف الروسي، رغم التداعيات الغامضة لمثل هذا الموقف على مباحثات فيينا التي يحرص الرئيس الأميركي جو بايدن على تقديمها هدية لطهران.
تعبيرات شعبوية لا علاقة لها بمواقف الناس الموجوعين من آلام الحروب، فيما كان آباء هذا الجيل الموالي يتنعمون بالسلام ببلدان اللجوء، حين ساعدت الرياض بجزء من التزاماتها بما سمي بلاجئي رفحا السعودية، حيث المكاسب التي يحصلون عليها اليوم في شكل رواتب مضاعفة لهم ولأبنائهم، ويحرم العراقيون الآخرون من حقوقهم المشروعة في التقاعد مثلا.
تم رفع صورة الغازي بوتين في منطقة الجادرية ببغداد، حيث مقرات أكبر الميليشيات المسلحة، ووصف بالصديق في إحراج جديد لرئيس الحكومة مصطفى الكاظمي الذي يحاول تمرير أيامه الحالية دون معوقات تعيق ولايته الثانية، بعد أن أعلن الزعيم الشيعي مقتدى الصدر موقفا صريحا في إدانة غزو بوتين لأوكرانيا.
تتجاوب موسكو الغازية مع المواقف الرخيصة الشعبوية لهؤلاء الحمقى داخل العراق ضمن حملة البروباغندا الدعائية لكسب الحرب، فقد أعلنت القنصلية العامة لروسيا في البصرة جنوبي العراق عن استمرارها بتلقي طلبات التطوع من مواطنين عراقيين للانضمام إلى صفوف الجيش الروسي للمشاركة في حرب أوكرانيا.
هذه هي قوى المقاومة والممانعة، أيدت غزو بوتين لسوريا وقتله مئات الألوف من السوريين وتشريد الملايين وتدمير مدنهم، لاستمرار حكم بشار الأسد، حيث يؤدي دوره التخريبي كمساعد أمين لمخططات إسرائيل وإيران والولايات المتحدة وروسيا في المنطقة.
الغزو واحد، لا فرق بين غزو أميركي وآخر روسي، كلاهما بلا رحمة، لكن الضحية في بلاد العرب لا تجد من يصرخ من أجلها. حرمت حتى من وجود الملاجئ التي تحمي الناس من القصف.