ارتفاع معدل الفقر في العراق نتيجة للحرب، وللنخبة السياسية أيضا

النخبة الجديدة تؤمن بأن الحلول الفردية هي السبيل للخروج من دائرة الفقر وليس الحلول التنموية والإصلاحية والتغييرية التي تتبناها وتقودها الدولة.
الجمعة 2019/01/11
مجتمع تسود فيه ثقافة الفقر على الرغم من غناه بالموارد

ارتفعت نسبة الفقر في العراق بشكل غير مسبوق الأمر الذي يزيد من تعقيدات الوضع ويهدد تماسك المجتمع. لكن لا يبدوأن الوضع هذا يعني كثيرا الطبقة السياسية التي تعيش في حالة بذخ.

يتجلى ذلك في الإنفاق على سفر الوفود الرسمية للخارج وما تقيمه الدوائر الحكومية من مؤتمرات ومهرجانات واحتفالات تبدو مثل طقوس استعراضية لتأكيد الهيمنة والتفوق النخبوي فيما المناطق العشوائية والمهمّشة تعاني البؤس والحرمان والأمية والبطالة.

وحتى في سنوات الفورة الريعية التي سبقت الأزمة الراهنة لم تتوفر لدى صانع القرار إرادة حقيقية لمكافحة الفقر. وما تفسير هذه الظاهرة إلا أن النخب المهيمنة تجد مصالحها مرتبطة باستمرار الفقر والطبقية الشرسة، وأن غياب الإرادة لمعالجتهما لا تنبع من غياب الوعي التنموي لدى صنّاع القرار فحسب؛ وإنما تعكس حضور وعي سياسي مضاد للتنمية ومعاد للمساواة لديهم وثقافة تنصُّل من المسؤولية تعتقد أن الخلاص من الفقر هو شأن “فردي” من مسؤولية المواطن والدولة غير معنية به. فالمسألة ليست اختلالاً في السياسات فقط؛ وإنما هي أزمة في الإرادة وقبلها في الوعي والثقافة. 

بسبب “ثقافة الفقر” المهيمنة في المجتمع العراقي، تشعر النخب التي تفرزها الانتخابات أنها بوصولها إلى السلطة إنما انتقلت من طبقة “دُنيا” إلى طبقة “عُليا” متمايزة ومتميّزة عن بقية المجتمع، لذلك هي حريصة على الاستحواذ على كل ما يؤكد انتماءها لهذه “الطبقة النبيلة” وحيازة كل الوسائل اللازمة لتعزيز حضورها في العالم الجديد.

يقول الباحث السوداني أحمد بابكر حمدان في دراسته “سيكولوجية المنتقلين من دوائر الفقر”: “يعيش المنتقلون من الفقر هواجس العودة والارتداد إلى الحرمان، مما يدفعهم إلى تبني فكرة الامتلاك المفرط للأدوات أيّا كانت، بمستوى يمنحهم أمانا كافيا ويقربهم إلى مماثلة ما يمتلكه الأغنياء العتيقون في الرفاهية، وتقابل رغبة الامتلاك لدى الصاعدين الجدد رغبة متطرفة مقابلة تتمثل في التخلص من تاريخ الفقر ومظاهره وأدواته وأشخاصه وقد تمتد الرغبة الجامحة في التخلص إلى تغيير اللهجة وأسلوب الكلام والأسماء”.

وهذا يعني أن النخبة السياسية الجديدة في العراق غادرت الفقر ولم تغادر “ثقافة الفقر” وتحررت من الحرمان كوضع مادي واقتصادي ولكنها لم تتحرر من الشعور بالحرمان.

وبسيطرة ثقافة الفقر وسيكولوجيا الحرمان على عدد من واضعي السياسات والتشريعات وصنّاع القرار فقد تم إعادة إنتاج الفقر وتكريسه كواقع اجتماعي واقتصادي وثقافي أيضا. هذا بالإضافة طبعا إلى العامل السياسي المتمثّل في حرص النخبة المهيمنة على إدامة خضوع المجتمع وتابعيته لها بمعنى تكريس الانصياع والإذعان المجتمعي للسلطة والناتج عن الفقر والأمية والانكسار الاقتصادي والانسحاق الاجتماعي وضعف الإمكانات المعرفية والمعيشية وتدنّي نوعية الحياة لدى شريحة واسعة من السكان.

الفقراء هم الطبقة الاجتماعية التي تشكّل القاعدة العريضة للهرم الطبقي الذي تتربّع النخبة السياسية المهيمنة في قمته لتشكّل الطبقة العليا التي تحتكر السلطة والثروة. لذلك يعكس السلوك السياسي للنخبة الحرص على المحافظة على تراتبية النظام الطبقي وأن يظل الفقراء فقراء لأن هذا الوضع يضمن مصالح هذه النخبة وديمومة مكوثها في قمة الهرم.

ثمة تواطؤ من الطبقة الوسطى مع الطبقة العليا على صيانة هذه التراتبية وتقديم الطبقة الفقيرة كقربان بشري للفقر والحروب لضمان ديمومة النظام الطبقي/السياسي الذي يضمن مصالح الطبقتين العليا والوسطى. كما تم توظيف الخطاب السياسي لتكريس الفقر وثقافته ومشاعره في المجتمع باعتباره عنصرا أساسيا من عناصر “المظلومية المذهبية” لمكون اجتماعي معيّن من العراقيين بمعنى أن الفقر بات جزءا من “الهوية السياسية” لهذا المكون لذلك صارت السياسات تتحرك باتجاه إدامة الفقر لتغذية الإحساس بالهوية والتمحور حولها وبالتالي إدامة النظام السياسي الذي يستند في شرعيته على سردية تمثيل هذه الهوية وما عانته من “مظلومية تاريخية”.

إن ما حصل هو عملية تسييس وأدلجة للفقر وتحويله إلى “عقيدة” بحيث باتت فكرة اعتماد أي سياسات لتفكيك بنية الفقر واجتثاث جذوره بمثابة محاولة للانقلاب على العقيدة والهوية. ما فعلته السلطة عمليا هو تحويل الفقر في العراق إلى مسألة وجودية مرتبطة بالوجود السياسي لشريحة واسعة من العراقيين الفقراء.

يرى الاقتصادي الأميركي ثورستين فيبلين، مُبتكر مفهوم “الرفاهية المظهرية”، أن النشاط الأساسي للطبقة المرفّهة هو الاستهلاك غير الإنتاجي للمال. وعبر السلوك الريعي تحاول النخبة العراقية الجديدة تغذية شعورها بما أسماه فيبلين بـ”التخمة المالية”، وذلك من خلال الإنفاق بإسراف على الأثاث الحكومي الفخم وتوظيف الحاشيات المحيطة بكبار المسؤولين من مساعدين ومرافقين وجيوش من الموظفين والحراس الفائضين عن الحاجة الذين تستوعبهم وظائف “البطالة المقنعة”.

لكن الفقر ليس حالة مادية واقتصادية فحسب؛ ولكنه أيضا كما جاء في تقارير البنك الدولي حالة ذهنية أو “نموذج ذهني للتفكير” وكما جاء في مقاربة الباحثين سيندل مواليناثان وإلدار شافير التي تجادل بأن الفقر ليس عجزا في الموارد المادية فحسب بل هو أيضا سياق تُتخذ فيه القرارات، فقد يلقي بعبء إدراكي على عاتق الأفراد مما يجعل من الصعب عليهم ص أن يفكروا بطريقة تدبرية.

والنخبة الجديدة التي وصلت إلى السلطة في العراق لا تستطيع تصوّر العالم إلا من خلال النموذج الذهني الذي عاشته خارج السلطة، كجزء من مجتمع تسود فيه ثقافة الفقر على الرغم من غناه بالموارد وربما بسبب “لعنة الموارد” نفسها، ولذلك تنظر هذه النخبة إلى الفقر باعتباره حالة “طبيعية”.

تؤمن النخبة الجديدة بأن الحلول الفردية هي السبيل للخروج من دائرة الفقر وليس الحلول التنموية والإصلاحية والتغييرية التي تتبناها وتقودها الدولة.

لا شك في أن الأمر لا يشمل كل المسؤولية فيه للسياسيين القادمين من خلفيات اجتماعية فقيرة أو هو تبرئة للساسة القادمين من خلفيات أرستقراطية أو من الطبقة الوسطى؛ ولكنها مقاربة لتسليط الضوء على “ثقافة الفقر” الموجودة أساسا في المجتمع والمتوارثة عبر الأجيال والتي انعكست سياسيا في سلوك وأداء النخب الجديدة وطبيعة الدور الذي لعبته الثقافة والنخبة في تكريس الفقر وإعادة إنتاجه في المجتمع العراقي.

الديمقراطية لا تضمن اجتثاث الفقر وتحقيق الرفاه الاقتصادي بشكل تلقائي، بل يحتاج الأمر إلى مخاضات عسيرة وسنوات طويلة يجرّب فيها المجتمع أنماطا من النخب المستسلمة لثقافة الفقر والفاقدة للوعي التنموي حتى يستطيع أن يفرز نخبة مؤهلة لتقود التنمية وتستأصل الفقر من جذوره.

6