اجتماع معنوي بين فتح وحماس في الصين

كل المحطات التي مر بها ملف المصالحة بين حماس وفتح على مدار 18 عاما في مصر وقطر والسعودية والجزائر وتركيا وغيرها لم تفلح في تحقيق تفاهم تم إنزاله على الأرض وتثبيته.
الجمعة 2024/05/03
مصالحة أم إبراء ذمة

لم يتوقع من يتابعون ملف المصالحة بين حركتي فتح وحماس الفلسطينيتين أن يحقق اجتماعهما الأخير في الصين تقدما ملموسا، ولم ينتظر هؤلاء أن ينتهي الخصام في جلسة أو أكثر تعقد في بكين أو غيرها، لأن الخلاف بينهما شديد، وزادت حدته بعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وتحميل قيادات في فتح لحماس مسؤولية تداعياتها.

في حين ترى حماس أن عملية طوفان الأقصى والحرب الضروس الراهنة قدمت خدمة جليلة للقضية الفلسطينية، حيث أعادتها إلى الواجهة الدولية، وأضفت على السلطة الوطنية التي تقودها فتح بريقا سياسيا افتقدته على مدار نحو عقدين.

هذه واحدة من الحسابات الظاهرة، تضاف إليها التقديرات المتباينة لقضايا جوهرية، ما جعل لقاء الحركتين في بكين لا تتجاوز أهميته القيمة المعنوية، وتتعلق بالإيحاء برغبتهما في تجسير الهوة، وتأكيد أن المصالحة هدف يسعى إليه كلتاهما، لن يتم التخلي عنه في أي زمن، لأن اتهامات عدة لاحقتهما مؤخرا بعد تصاعد حدة التراشق بين قيادات من هنا وهناك، أشارت إلى صعوبة الجلوس إلى طاولة واحدة.

◄ وفدا فتح وحماس ذهبا إلى بكين بلا ضجة أو صخب إعلامي، وعادا في هدوء، ومن حسن الحظ أنهما فعلا هذا الأمر، لأن الأوضاع الفلسطينية مليئة بالأوجاع، ولا تحتمل مراوغات جديدة

أحرزت بكين أيضا هدفا معنويا من وراء لقاء الحركتين، فهذه من المرات النادرة التي يجتمعان فيها بالصين، ما يعني أن حبل المصالحة لن يكون قاصرا على روسيا، أو يتم اختزاله في عواصم عربية وإقليمية أكثر انخراطا في المصالحة الفلسطينية، وأن الصين بدأت عملية تسخين سياسية لنزول الملعب الفلسطيني الذي يستوعب الراغبين في الحرب، والساعين نحو السلام، ومن يريدون تسجيل حضورهم في قضية حيوية شغلت، ولا تزال، بال قوى كبرى مختلفة.

ذهبت فتح وحماس إلى الصين كنوع من إبراء الذمة أكثر من الاستعداد لطرق ملفات وعرة في الخلاف الممتد بينهما، فالأجواء التي خلقتها حرب غزة لم تترك لقادة الحركتين رفاهية التراشق طويلا بالكلمات أو الأسلحة، وتفرض تبعاتها المستقبلية التوافق حول أجندة متقاربة، وليس الوصول إلى مرحلة مستقرة من السلام الطويل بينهما، فمن يعرفون الكثير عن جذور الخلاف يعلمون أن المسافات متباعدة أيديولوجيا، وبالتالي هناك صعوبة في التوصل إلى مصالحة حقيقية.

كل المحطات التي مر بها ملف المصالحة على مدار نحو 18 عاما، في مصر وقطر والسعودية والجزائر وتركيا وغيرها، لم تفلح في تحقيق تفاهم تم إنزاله على الأرض وتثبيته، ولذلك فلا أحد يعلم ما الذي يمكن أن تقدمه بكين لفصيلين ينفضّ أي اتفاق بينهما قبل أن يجف التوقيع عليه سوى أن تقترب خطوة سياسية من منطقة الشرق الأوسط وقضيته المزمنة، تعزز بها خطواتها الاقتصادية الكبيرة.

أجادت بكين التسلل إلى المناطق المحرومة اقتصاديا في أفريقيا، لكن مشكلتها أن الشرق الأوسط متشعب عسكريا وسياسيا، فأحد مشاكله تكمن في كثافة اللاعبين والمضاربين والمغامرين، ودخول الصين بقدر ما ينطوي على مقاربة جديدة تريد أن تختبرها، بقدر ما يزيد الأمر تشابكا، حتى لو كانت نواياها إيجابية من خلال بوابة المصالحة الفلسطينية، فهي بوابة يفضي الدخول منها إلى نفق الحرب الراهنة وما سوف تقود إليه نتائجها، وربما ذلك هو الذي جعل بكين تتحرك عمليا هذه المرة.

◄ فتح وحماس ذهبتا إلى الصين كنوع من إبراء الذمة أكثر من الاستعداد لطرق ملفات وعرة في الخلاف الممتد بينهما

يصعب أن تحقق المصالحة الفلسطينية اختراقا بمجرد لقاء بين حركتي فتح وحماس، كما أن القيمة المعنوية لن تمنح أصحابها، أي فتح وحماس وبكين، دليلا يمكنهم أو أحدهم من أن يشير إلى تحقيق نصر سياسي ملموس، فالجولات التي خاضها الطرفان فقط أو معهما ثلة من الحركات الأخرى لم تفلح إحداها في وضع حد لمسألة الانقسام، التي وظفتها إسرائيل للتنصل من أي استحقاقات تمنح جزءا من حقوق الشعب الفلسطيني.

كل الحركات التي حققت نجاحات في دولها وتمكنت من قيادة مرحلة التحرير ظهرت فيها حركة واحدة رئيسية، ومهما أظهرت فتح أو حماس من مرونة للتفاهم لن تتمكن من إنهاء الخلافات مع الآخر، فالمعادلة بينهما صفرية، ولا تحتمل الجمع، فما تتكبده حركة من خسارة هو مكسب للثانية، والعكس صحيح.

وتقوم فحوى الخطاب الذي تحمله كل حركة على نفي الآخر، ما يشي بأن جولات المصالحة تنحصر في أهميتها الإعلامية، وهو ما ينطبق على الراعية الجديدة، وهي الصين، التي يهمها أن تضع قدما إعلامية في إدارة القضية الفلسطينية، مع أنها تعلم أن روسيا وضعت قدميها مع الإسرائيليين والفلسطينيين وباتت واحدة من الرباعية الدولية الراعية للسلام، مع الولايات المتحدة وأوروبا والأمم المتحدة، ولم تفعل شيئا.

◄ حماس ترى أن عملية طوفان الأقصى والحرب الضروس الراهنة قدمت خدمة جليلة للقضية الفلسطينية، حيث أعادتها إلى الواجهة الدولية

اقتربت موسكو من ملف المصالحة الفلسطينية منذ فترة، واستضافت لقاءات عدة شملت فتح وحماس وفصائل أخرى، ولم تحقق تقدما يقول إنها استطاعت إقناع أو الضغط عليهما، وبدت الاجتماعات التي عقدت فيها نوعا من المكايدة للولايات المتحدة أكثر منها الحرص على الوصول لمصالحة فلسطينية توقف مخاطر يحملها الانقسام.

لم ينته طريق المصالحة في موسكو، فقد استقبلت في فبراير الماضي وفودا من فتح وحماس وفصائل أخرى، لكنها لن تتمكن من تحقيقها طالما أن القوى الفلسطينية ترى في الانقسام مغرما، ولا ترى في المصالحة مغنما، وهو ما سوف تواجهه بكين وقد يأتي على شكل أشد ضراوة، فخبرتها في هذه النوعية من الملفات السياسية محدودة، ولا يكفي الصبر والاجتهاد والدأب الصيني لمساعدتها على الاقتراب مما تريده من قضية محاطة بهالة من القوى الغربية التي تدافع عن مصالح إسرائيل.

ذهب وفدا فتح وحماس إلى بكين بلا ضجة أو صخب إعلامي، وعادا في هدوء، ومن حسن الحظ أنهما فعلا هذا الأمر، لأن الأوضاع الفلسطينية مليئة بالأوجاع، ولا تحتمل مراوغات جديدة أو مناورات تقول إن ملفًّا مثل المصالحة قريب من إغلاقه بصورة إيجابية، فقد فشلت فتح وحماس في الاتفاق على ثوابت أساسية حول إدارة قطاع غزة، فما بالنا إذا كان التفاهم بينهما يجب أن يصل إلى كل القضايا والتفاصيل التي تمس ركائز تقوم عليها كل حركة.

شاءت فتح وحماس أم رفضتا، فهما دخلتا مرحلة جديدة بعد الحرب على غزة، لها معاييرها وطقوسها وأهدافها، التي تجعل من ملف المصالحة في صورته التقليدية (فتح وحماس وما حولهما من فصائل) غير قابل للاستمرار، وسوف تعود المعادلة إلى الأصل، أي أن تكون هناك حركة واحدة قائدة وحولها حركات فرعية، وتتولى الحركة الأم استكمال عملية التحرير التي أصبحت أميل إلى أن تأخذ خطا سياسيا، تنهي به الازدواج القسري الذي حدث بين أدوات الحرب والسلام، ويعد ذلك أبرز معوقات المصالحة، وأهم الأسباب التي أدت إلى انسداد الأفق أمام القضية الفلسطينية.

8