اتحاد المغرب العربي.. الثوابت والمتغيرات
يُشكّل اتحاد المغرب العربي أو ما بقي منه، على صعيد النصوص المكتوبة والأحاديث ذات الطابع المناسباتي، والتي هي أقرب إلى الفلكلور، حالة وجدانية أو ذكرى عائدة كل عام من تاريخ ليس ببعيد، عبر تبادل قادة دول الاتحاد المغاربي، رسائل الود وتحميلها عبارات الرغبة في تفعيل الاتحاد المعطل منذ سنوات، باعتباره خيارا استراتيجيا لا رجعة فيه، الأمر الذي يدفع المهتمين بالشأن المغاربي إلى التساؤل عن الفهم المغاربي للخيار الاستراتيجي: فهل هو موقف سياسي يحقق مصلحة عامة لدول وشعوب المنطقة، أم أنّه لا يتعدى التأكيد على تنشيط الذاكرة التاريخية والاعتراف بالجغرافيا، رغم الحدود المغلقة وتلك التي ستغلق قريبا؟
دول المغرب العربي اليوم، تُمثّل جزرا منفصلة، رغم تداخل الحدود وتشابكها، وهي غارقة في محليتها وقطريتها، بل إنها تكرس كل يوم مخاوف جديدة من الدولة الجارة، فهي مثلا: تخاف من تنقل عدوى الإرهاب، ومن تهريب المخدرات، ومن اتخاذ دولها أماكن للجوء أو عبور إلى أوروبا خاصة من الدول الأفريقية الأخرى، وهي في الغالب تتحرك بما تراه مصالح قطرية بما قد يكون معاديا في الأساس للمصلحة المغاربية العامة.
لم تعد تحكم سياسة دولها منفردة ثوابت مثلت في الغالب مرافئ للأمان، مثل: التاريخ المشترك، الجغرافيا الثابتة، المصالح الاقتصادية المشتركة التي يمكن تحقيقها من خلال العلاقات البينية، ومطالبة دول العالم لها بتشكيل تكتل واحد، إنها تفضل العيش في أجواء المتغيرات، بما تراه مصالحَ وطنية تتحقق في الوقت الراهن بغض النظر عن نتائج المستقبل، لذلك لا تُولِي الاهتمام الكافي لتداعيات المرحلة.
لقد بدأ ذلك منذ أن دخلت الجزائر في عشريتها السوداء عام 1992، ويتكرر اليوم مع ليبيا، حيث تظهر نفس المخاوف، من ذلك الحيطة من انتقال الإرهاب الليبي إلى دول الجوار وخاصة تونس والجزائر، مع أن الأولى تصدر اليوم، دون إرادتها، عناصر إرهابية إلى ليبيا، والثانية كانت سبَّاقة في إنتاج الإرهاب في شمال أفريقيا، من خلال أخطاء سياسية قاتلة وقعت بعد اختيار ديمقراطي لم يكتمل لأسباب متعددة، المعروف منها أقل من المجهول.
والواقع أن الخوف من الوضع في ليبيا، تأسَّس له قبل ذلك بأكثر من عقدين من الزمن، أي منذ غلق الحدود بين المغرب والجزائر عام 1994، واستمر إلى الآن، بل وازداد اتساعاً، حيث نراه واضحا في الشريط الحدودي بين تونس وليبيا، ثم بين الجزائر وكلّ من تونس وليبيا، وكل ذلك يبرر بالدوافع الاحترازية لتطويق التهديدات الأمنية والإرهابية، ما يعني أن الحالة الراهنة في ليبيا، تجاوزت المخاوف لتصبح هاجسا أمنيا، قد يتحوّل إلى ثابت سلبي يقضم من رصيد الثوابت الإيجابي المُعوّل عليه في التعاون بين دول الاتحاد.
الوضع المغاربي الراهن هو نتاج لثلاثة عوامل رئيسة، أولها: تراجع الدولة القطرية لجهة التشكيك في كل المنجزات التي حققتها خلال العقود الماضية، ضمن هجمة محلية ودولية من قوى مختلفة بعد الانتفاضات التي حدثت انطلاقا من تونس عام 2010، لتتفجّر بعد ذلك في دول عربية أخرى لا تزال إلى الآن تجهل مصيرها النهائي، الأمر الذي حال دون الاهتمام بالقضايا المغاربية المشتركة.
ثانيها: أن القادة المؤسسين والموقعين على معاهدة إنشاء اتحاد المغرب العربي في 17 فبراير 1989، ليسوا في السلطة اليوم، إما بسبب الموت مثل الملك الحسن الثاني والرئيس الشاذلي بن جديد، أو على خلفية الانتفاضة الشعبية والاغتيال مثل معمر القذافي، أو هارب من البلاد مثل زين العابدين بن علي، أو خارج الحكم، كما هو الأمر بالنسبة للرئيس معاوية ولد سيدي أحمد الطايع. صحيح أن الاتحاد المغاربي لم يحقق في عهودهم شيئا يذكر باستثناء تلك الصورة الجماعية، والتي تقوم اليوم شاهدا عن وحدة مغاربية حتى لو كانت رمزية، لكن غيابهم يعد عاملا في تحول الاتحاد إلى مجرد خطة أوليّة محفوظة في ذاكرة الزمن.
ثالثها: أن الاتحاد المغاربي جزء من المنظومة العربية، وهذه الأخيرة تواجه تراجعا في العلاقات البينية، نتيجة الأوضاع الداخلية في كل دولة عربية، وأيضا نتيجة المشكلات والضغوط التي فرضها الواقع الدولي، وما صاحبه من تكتلات كبرى، تحمل أوزار الحرب في أكثر من مكان، وما القصف الأميركي لداعش في ليبيا مؤخرا إلا دليل عن الفشل في حماية الدولة القطرية وغياب سيادتها، وغياب دور مغاربي، يمكن التعويل عليه لإنقاذ المنطقة من الإرهاب.
نتيجة للعوامل السابقة ولغيرها، تكسّرت طموحات وآمال الشعوب المغاربية، ومنها: تحقيق الوحدة والاندماج، أو على الأقل التعاون بما يحقق المصالح المشتركة طبقا لثوابت التاريخ والجغرافيا، لذلك لا جدوى من تبادل البرقيات بين قادة الاتحاد بحلول المناسبة، فيما يتناسون على طول أيام السنة أنهم يعيشون في دول عاجزة عن التأثير أو حتى الاستقرار منفردة، وأنهم مطالبون باتخاذ مواقف تحقق التقارب بين الشعوب المغاربية.
لا يكفي القول إن حصيلة الاتحاد المغاربي، بعد 27 سنة من تأسيسه، هزيلة بفعل جمود مؤسساته، وعدم طرح مبادرات شجاعة على طريق هذا البناء، وأيضا عدم تفعيل الاتفاقات المهمة المبرمة، وإنما علينا البحث بجدية في كيفية الخروج مما نحن فيه، وتلك مهمة جميع النخب، وليست حكرا على السياسيين.
علينا في دول المغرب العربي، وهذا ضمن السياق العربي العام، أن ندرك أهمية تفعيل مؤسساتنا الوحدوية على غرار التجمعات السياسية والإقليمية التي فرضتها تحولات ما بعد الحرب الباردة، لأن في ذلك حماية للدولة القطرية وللعلاقات البينية والإقليمية، ناهيك على أنها تدعم العمل المشترك مستقبلا، وهنا يحكمه عاملان، الأول الزمان من حيث هو ماضوي، يتمثل في التاريخ المشترك، وحاضر يتطلب تجاوز الأزمة، ومستقبل يتطلب التحضير له من أجل البقاء، وهذا من المتغيرات، الخاضعة للتطوير والتبديل، والثاني المكان، بمنعه من تغير تضاريسه وإعادة تشكيل دُوَلهِ، وهذا من الثوابت، وما عدا ذلك فكل شيء خاضع للاجتهاد.
كاتب وصحفي جزائري