اتحاد الشغل التونسي يحيد عن سكته

حين أحرز الرباعي الراعي للحوار الوطني في تونس والمكون من أربع منظمات على جائزة نوبل للسلام في عام 2014، كان لأكبر منظمة نقابية في البلاد (الاتحاد العام التونسي للشغل) دور طلائعي في تجنيب تونس حمّام دم، خاصة أن مختلف الشرائح الشعبية التونسية في ذلك الوقت كانت تغلي وتسعى إلى ثورة مشابهة لما وقع في مصر ضدّ حكم الإسلاميين عقب اغتيال الناشطين السياسيين شكري بلعيد ومحمّد البراهمي.
في تلك الفترة الصعبة التي انغمست فيها تيارات وميليشيات إسلامية في كل شبر من البلاد وكفّرت وحرضت ضد سياسيين وإعلاميين ومثقفين ونقابيين، كان اتحاد الشغل (بقيادة الأمين العام السابق حسين العباسي) أمام فرصة سانحة ليس للعب أدوار سياسية فحسب بل أيضا ربّما للحكم، على اعتبار أن غالبية التونسيين وتحديدا في عامي 2013 و2014 لم يكن لديهم أي بديل لمنظومة “الترويكا” التي قادتها حركة النهضة سوى المنظمة الشغيلة التي تحظى منذ أربعينات القرن الماضي بثقة واسعة لدى التونسيين.
وبعد مرور سنتين على تغيّر قيادة الاتحاد وتمكّن أمينه العام الحالي نورالدين الطبوبي من الفوز بأغلبية مريحة خلال المؤتمر الـ23 في عام 2016، أضحت أدوار المركزية النقابية للمنظمة (المكتب التنفيذي)، التي يبدو أنها انخرطت بشكل يكاد يكون كليا في الممارسة السياسية أكثر من الفعل النقابي، محل تساؤلات كبرى صلب جزء هام من مكونات المشهد السياسي بالبلاد وخاصة من الأطراف المناصرة لمواقف الاتحاد منذ نشأته ومنها اليسارية والقومية والحداثية وتحديدا حول ملفات الحريات أو تقلّب المواقف السياسية التي يخيطها الطبوبي، خاصة عقب الانخراط في مساندة ما يعرف بحكومة الوحدة الوطنية والتي هندسها الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي.
موازاة مع تعقّد الأزمة السياسية الخانقة في تونس وعودة الحديث عن إمكانية واردة لاستئناف سلسلة مفاوضات قرطاج بين الأحزاب والمنظمات التونسية الموقعة منذ عام 2016 على وثيقة أولويات الحكومة بشأن وثيقة قرطاج 2 المتضمنة لبند يدعو صراحة إلى وجوب إقالة حكومة يوسف الشاهد برمتها، تعمّق اللبس في مواقف الاتحاد العام التونسي وأضحت تحركات قيادته، التي يبدو أنها وفق كواليس بطحاء محمد علي (المقر المركزي للمنظمة)، غير متطابقة مع رغبات قواعده مدعاة للاستغراب لا فقط في نظر المتابعين بل أيضا حتى لدى قيادات نقابية من الصفّ الأول لم تقدر على مزاحمة أو منافسة الطبوبي في المؤتمر الأخير.
وتشير تحرّكات القيادة في اتحاد الشغل، في الآونة الأخيرة إلى أن مواقف المنظمة لم تعد مثلما كانت عليه في السابق مبنية على توجهات ومبادئ محتكمة لزخم تاريخي بنته قيادات اتحادية بارزة أمثال فرحات حشاد أو الحبيب عاشور، بقدر ما هي محتكمة لحسابات سياسية متمركزة في جلها حول هدف واحد هو الإصرار على تدارك خطأ الانخراط يوما في مساندة الحكومة الحالية وذلك عبر الدفع بأي ثمن لإنهاء مهام رئيس الحكومة يوسف الشاهد.
التساؤل بشأن مخاوف وتوجسات تخص ما يروج عن زيغ المنظمة النقابية عن مسارها النقابي الثابت والمتجذر أججته مؤخرا تصريحات أمينها العام المنتقدة لتقرير الحريات الفردية والمساواة وخاصة لأعضاء اللجنة التي أعدته.
ورغم أن الطبوبي يتمسّك بخصوص رفض قيادات الاتحاد لقاء أعضاء لجنة الحريات، بتعلة أن لبسا كبيرا يوجد على مستوى أعضائها أو أنه لا تتوفّر بها كفاءات ضامنة للتوازن المطلوب، إلا أن العارفين بخبايا وكواليس الاتحاد يدركون أن وراء خطوات قيادته حسابات سياسية.
لا جدال في أن يكون لاتحاد الشغل أو أمينه العام حق في الصداح بأي موقف يراه متناسبا ومتناسقا مع خط المنظمة في أي من القضايا المجتمعية أو السياسية في البلاد والتاريخ يعطيه الأحقية بذلك طبعا، لكن من حق المتابعين أيضا أن يلاحظوا أن تناقض مواقف الأمين العام للمنظمة وتبدّلها بسرعة عادة ما كانت مبنية على حسابات سياسية، يضر وفق جل الملاحظين بالصورة الناصعة للاتحاد.
ويدرك المتمعّن في خلفيات تباطؤ المنظمة الشغيلة في إصدار مواقف واضحة حيال تقرير الحريات والمساواة- الذي يتم توظيفه في الآونة كل على مقاسه وعلى أهوائه- أن مردّ رفض الطبوبي لقاء أعضاء لجنة الحريات كان مرتكزا إلى أبعد الحدود على منطلقات انضمام رئيستها بشرى بالحاج حميدة إلى كتلة برلمانية جديدة تضم 27 نائبا سيضمنون تواصل بقاء يوسف الشاهد على رأس الحكومة ويوفرون له حزاما سياسيا يحميه من تمسّك اتحاد الشغل أو حزب نداء تونس بالإطاحة به.
وفي قلب الحروب التي يخوضها أمين عام المنظمة النقابية، يطرح أيضا سؤال آخر بخصوص اكتفاء الأمين العام لاتحاد الشغل بمهاجمة أعضاء لجنة الحريات الفردية والمساواة دون تحميل الرئيس الباجي قائد السبسي مسؤولية ذلك، على اعتبار أنه صاحب المبادرة بل هو من شكّل اللجنة واقترح الأسماء المكونة لها.
هنا، يثير عدم وضوح مواقف قيادة الاتحاد العام التونسي بخصوص ملف الحريات العديد من الاستفسارات بشأن من بات يسطّر السياسات والتوجهات العامة الاتحاد.
ولأنه سيكون من الإجحاف حصر مواقف أو تحرّكات الاتحاد العام التونسي للشغل في مربع أمينه العام، فإنه حريّ التذكير بأن المنظمة العريقة التي تم تخوينها أو حتى التهجّم عليها في الكثير من المناسبات من قبل ميليشيات إسلامية، لها باع وذراع في مجال الدفاع عن الحريات والحقوق والمساواة.
في المحصلة، إن الزج بالمنظمة النقابية في عالم السياسة ساهم في تورطها في الكثير من المآزق السياسية وأيضا في الدخول في صدام داخلي بين مركزيتها النقابية (المكتب التنفيذي) وبين قواعدها التي لم تكن راضية لا على مشاركة قيادات الاتحاد في هندسة وثيقتي قرطاج الأولى والثانية ولا على جر الاتحاد العام التونسي للشغل لتحمّل مسؤوليات أعباء حكم البلاد دون أن تحكم.