إيمانويل ماكرون الباحث عن حلول لأزمات أوروبا من بوابة كأس العالم

الرئيس الفرنسي الذي يعلن رفضه لسياسات الدولة "المحلية".
الثلاثاء 2022/12/20
"فتى البنوك" لا يشعر بالقلق من أزمة الطاقة

باريس - بدأ كل شيء من تلك الطاولة التي اختارها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتفصل بينه وبين مبعوث الغرب رفيع المستوى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وسال حبر كثير في وصف الدلالات الرمزية التي اختارها بوتين ليجعل الطاولة تقول ما لا يريد قوله في ذلك الاجتماع.

التباعد واختلاف القيم مع ضرورة وعي المصالح والمحافظة عليها، لكن لم تكن نتائج ذلك الاجتماع المثير للجدل كافية للقول إن الغرب فشل حتى تلك اللحظة في طمأنة بوتين، خاصة حين يرسل ماكرون.

منذ ذلك المشهد وحتى رحلة الرئيس الفرنسي إلى الولايات المتحدة في الأيام الأخيرة لهذا العام، والتي تخللتها تصريحات لا تقل إشكالية عن المتوقع، ووصولاً إلى ظهوره الأخير في الدوحة على مدرجات نهائيات كأس العالم، كانت مهمة ماكرون البحث عن حلول لأزمات أوروبا المتفاقمة.

لا داعي لإثارة خوف الفرنسيين

ظهور ماكرون في قطر يأتي وسط أزمة جديدة تعصف بعلاقاتها مع أوروبا
ظهور ماكرون في قطر يأتي وسط أزمة جديدة تعصف بعلاقاتها مع أوروبا

في أوائل ديسمبر الجاري كان ماكرون يقول إن إثارة الخوف في فرنسا بشأن حالة قطاع الطاقة أمر ”عبثي“، ويكاد يقسم أن بلاده ستجتاز هذا الشتاء، على الرغم من التوترات التي تشهدها سوق الطاقة بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا.

كان ذلك خلال حضوره قمة زعماء الاتحاد الأوروبي وغرب البلقان في ألبانيا، حيث قال بتشديد إن دور السلطات العامة ليس نشر الخوف، ولا أن تفرض حكمها عن طريق الخوف.

لا خوف إذن في أوروبا من أزمة الطاقة، لكن الأسعار تضاعفت والمواطنون الأوروبيون باتوا يخرجون بمقاطع فيديو وهم يبكون هلعاً، لأنهم يضطرون إلى الاختيار بين دفع فاتورة غاز التدفئة أو فاتورة الكهرباء لطهي الطعام.

”فتى البنوك“، كما يسميه الفرنسيون، لا يشعر بالقلق، وربما كان تفاعله مع مباراة فرنسا والمغرب في نصف النهائي، ودخوله غرف تبديل الملابس بين اللاعبين، ثم صرخاته وقفزاته في الهواء خلال نهائي المونديال بين منتخب بلاده ومنتخب الأرجنتين، معبّراً عن قلق أكبر من تخوفاته بشأن أزمة الطاقة.

الإجراءات الاقتصادية التي اتخذها بايدن يصفها ماكرون بأنها "شديدة العدوانية"، متّهماً الأميركيين بأن برنامجهم للاستثمارات والإعانات لمساعدة الشركات المحلية يهدّد "بتفتيت الغرب"

وفي أكتوبر الماضي، كان موقف ماكرون مثيراً للاستغراب، حين انتقد ألمانيا بعد إقرار حكومتها خطة مساعدة محلية ضخمة لدعم الأسر والشركات، الأمر الذي اعتُبر تغييرا في سياستها من دول في الكتلة الأوروبية.

وما كان من ماكرون إلا مطالبة برلين بإبداء “تضامن” أوروبي في مواجهة ارتفاع أسعار الطاقة، محذرا من “إخلال بالتوازن” على صعيد التنافس يمكن أن ينجم عن الخطة الألمانية.

هو يرفض الخطط الداخلية للدول الأوروبية لمساعدة المواطنين على تحمّل تكاليف المعيشة الباهظة، وهو يدرك أن خططاً من هذا النوع ستثير انزعاج الفرنسيين منه، وهو الذي يقول ”لا يمكننا أن نمضي قدما بسياسات وطنية، لأن هذا الأمر يتسبب بإخلال بالتوازن في القارة الأوروبية”. ويضيف “قارتنا أوروبا وعلى غرار ما حصل إبان أزمة كوفيد أمام لحظة حقيقة، علينا أن نتحرّك بوحدة صف وتضامن“، غير أن قيادة أوروبا لم تتحقق من خلال محاولة ماكرون الصراخ في وجه الأميركيين، بأن أسعار الوقود الذي يبيعونه لأوروبا لا رحمة فيها.

شريكه في قيادة الاتحاد الأوروبي حالياً المستشار الألماني أولاف شولتس يتّهمه ماكرون بأنه اختار النجاة لوحده، باتباع نهج “أحادي” عبر خطة مساعدة بموارد مالية قدرها 200 مليار يورو لدعم الأسر والشركات. فما الذي يريده ماكرون؟

يقول إن “ألمانيا تمر بلحظة تغيير لنموذجها يجب ألا نقلل من أهمية طابعها المزعزع للاستقرار”. ويضيف “لكن إذا أردنا أن نكون متسقين، يجب ألا نتبنى إستراتيجيات وطنية، بل إستراتيجية أوروبية”.

التخوّف من التحالف القوي

زيارة وسط اتهامات بالفساد
زيارة وسط اتهامات بالفساد

لا يخفي ماكرون فلسفته الاقتصادية منزوعة البعد الاجتماعي، والتي بلغت حدوداً غير مسبوقة، بمناداته بتقديم دعم سريع لقطاع صناعة السيارات الأوروبي لمواجهة المنافسة الصينية والأميركية.

في فترته الرئاسية الثانية بات ماكرون غير مكترث بما يقال عنه من أنه متناقض الفكر والتصريحات، فعلى الرغم من اعتباره الولايات المتحدة منافساً وبلا رحمة إلا أنه قال في خطاب له في السفارة الفرنسية بواشنطن إن التحالف مع الولايات المتحدة “أقوى من كل شيء“.

حين تصغي إلى حديثه تشعر بانفصاله التام عن المحيط وعما يجري من حوله، فخلال لقائه مع أعضاء من الكونغرس الأميركي على مأدبة غداء استنكر ماكرون الإجراءات الاقتصادية الأميركية التي اتخذها الرئيس جو بايدن ووصفها بأنها “شديدة العدوانية“. وكرّر اتهامه للأميركيين بأن برنامجهم للاستثمارات والإعانات لمساعدة الشركات المحلية يهدّد “بتفتيت الغرب“.

ماكرون لا يخفي فلسفته الاقتصادية منزوعة البعد الاجتماعي، والتي بلغت حدوداً غير مسبوقة، بمناداته بتقديم دعم سريع لقطاع صناعة السيارات الأوروبي لمواجهة المنافسة الصينية والأميركية

تلك الإجراءات التي أغضبت ماكرون لا علاقة لها بالغاز ولا التدفئة في البيوت الفرنسية، بل هي ضمن برنامج الدعم الأميركي الهائل للانتقال في مجال الطاقة، الذي وضعه بايدن ويطلق عليه ”قانون خفض التضخم“، عبر منح إعانات سخية للسيارات الكهربائية والبطاريات والطاقة المتجددة، بشرط تصنيعها على الأراضي الأميركية.

وكي يبرّر غضبه قال ماكرون “ضعوا أنفسكم في مكاني.. لم يتصل بي أحد عندما كان قانون خفض التضخم يناقش، مع أنه يجب احترامي كصديق جيد“.

كما ذهب إلى بوتين وعاد بلا نتيجة، ذهب إلى بايدن وعلى الأرجح أنه عاد بلا نتيجة تذكر، مع أنه طلب هناك بتعزيز التنسيق بين الولايات المتحدة وأوروبا.

غضب ماكرون من الولايات المتحدة لا يعود إلى هذا الجانب وحده، فهناك ما أثار حفيظته منذ العام الماضي، حين أعلنت واشنطن تحالف “أوكوس” الجديد مع أستراليا وبريطانيا، وتم استثناء فرنسا من هكذا معادلة.

خسرت فرنسا بسبب ذلك عقد بيع غواصات إلى كانبيرا، كما تم استبعادها من الإستراتيجية الأميركية في منطقة المحيطين الهادئ والهندي الإستراتيجية. وهذا كلّه أشعر ماكرون أنه غير مرحّب به كحليف ”قوي“ كما يقول.

وسط هذا كله يمرّر ماكرون أنه يحصل على مكاسب غير مرئية من أزمة الطاقة الحالية في أوروبا، وبعد أن كانت ألمانيا هي مركز توزيع الغاز المضغوط باتت فرنسا اليوم بمحطاتها العديدة لضغط الغاز وضخه هي الموزّع الأول حيث يصل الغاز إلى أراضيها أولاً، ليتم نقله إلى عموم أوروبا.

زيارة وسط اتهامات بالفساد

غضب ماكرون من واشنطن لا يعود إلى الاقتصاد وحده، بل إلى إعلانها تحالف "أوكوس"
غضب ماكرون من واشنطن لا يعود إلى الاقتصاد وحده، بل إلى إعلانها تحالف "أوكوس"

رغم ذلك ماكرون لم يتردّد بالذهاب إلى قطر وسط أزمة جديدة تعصف بعلاقاتها مع أوروبا، وتعرّض من أجل ذلك إلى سيل من الانتقادات طالت زيارته لدعم منتخب بلاده لكرة القدم، تزامنت مع اتهامات وجّهت لقطر بالفساد في البرلمان الأوروبي تنذر بتداعيات قادمة.

وقال ماكرون “أتحمّل بالكامل مسؤولية زيارة قطر“. وأضاف “أنا مرتاح تمامًا للأمر”. وتابع مجيباً الصحافيين “دعمتُ قبل أربعة أعوام المنتخب الفرنسي في روسيا، وأنا أدعمه في قطر“. وحول قضية الفساد طالب ماكرون بالانتظار لمعرفة الحقائق والمتورطين قبل اتخاذ القرار الصحيح.

وقد صدر قرار بالحبس الاحتياطي بحق اليونانية إيفا كايلي، نائب رئيسة البرلمان الأوروبي، في بلجيكا، للاشتباه في تلقيها أموالاً للدفاع عن مصالح قطر. وكان النائب الأوروبي والمرشح السابق للرئاسة عن الخضر يانيك جادو قد كتب على تويتر “نعلم منذ سنوات أن كأس العالم هذا هو مأساة بيئية واجتماعية، هناك تحقيق في فرنسا في ميثاق فساد مرتبط في البرلمان الأوروبي: أطلب من إيمانويل ماكرون عدم الذهاب إلى قطر“، إلا أن ماكرون ذهب دون اكتراث مجدداً.

أراد ماكرون تقديم ما أسماها بسعادة من نوع آخر لمواطنيه هي آخر ما يحتاجونه حالياً، وقال عن ذلك “يحتاج مواطنونا لتلك السعادة البسيطة والفرحة، الرياضة تقدم ذلك لنا وخاصة كرة القدم، أنا الآن أفضل بكثير مما كنت عليه”.

قفز في المدرجات، ونزل إلى الملعب، وذرف الدموع ليواسي كيليان مبابي وأنطوان غريزمان وديديه ديشامب، ووقف على المنصة مع أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، ورئيس الفيفا جياني إنفانتينو وعانق اللاعبين وضمهم إلى صدره، لكن شيئاً لم يتغيّر في المكانة المنحسرة لفرنسا في العالم، وخاصة في الكتلة الأوروبية التي تشعر بأنها تحت ضغط وضع قادم لا تعرف كيف سيكون شكله ولا ضريبته الباهظة.

12