إيران وأفريقيا.. ماض حافل ومستقبل غامض

بعد أن شهد عام 2023 موسم الحج إلى القارة الأفريقية حيث زارها العديد من الرؤساء وقادة الدول، أتى الدور على إيران ليحاول الرئيس إبراهيم رئيسي من خلال زيارته إلى كينيا وأوغندا وزيمبابوي إشراك بلاده في لعبة التوازنات الجيوسياسية الجديدة التي أفرزتها الحرب في أوكرانيا، والتي جعلت من أفريقيا ملعبا تجري فيه المنافسة على تشكيل كتل تتمحور حول واشنطن وأوروبا من جهة، وبكين وموسكو من جهة أخرى، ومن منطلق أن إيران ترى نفسها قوة إقليمية فإن النظام يرى في إعادة تشغيل القنوات الدبلوماسية في القارة السمراء بعد 11 سنة من الغياب وبغية الحفاظ على نفوذه فيها، أمر يفرضه السياق الدولي وصراع النفوذ في هذه القارة.
شكّل إنشاء جمهورية إيران الإسلامية عام 1979 نقطة تحول في العلاقات بين طهران والقارة الأفريقية. لم يخل هذا التحول من الطابع الأيديولوجي، حين سعى النظام الجديد إلى تصدير ثورته الإسلامية، ثم سرعان ما أضيف إليه الطابع الدبلوماسي مع اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية، حيث افتتحت طهران سفارات في جميع أنحاء القارة بهدفين رئيسيين: احتواء النفوذ المتزايد لصدام حسين في أفريقيا، وكسب دعم الدول الأفريقية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو ما يسمح لطهران بالحصول على دعم دولي قيم في أوقات الحرب.
وقدم الحرس الثوري الإيراني دعما لوجيستيا ساهم في نجاح انقلاب عمر البشير واستيلائه على السلطة في السودان سنة 1989، ومكن هذا الانقلاب من فصل السودان عن بعده الإقليمي العربي. كما لعبت إيران دورا بارزا في الحرب الأهلية في الصومال بدعمها لجماعة المحاكم الإسلامية، وفي حرب القرن الأفريقي بين أثيوبيا وإريتريا، حيث زودت هذه الأخيرة بالمئات من عناصر فيلق القدس وضباط البحرية والخبراء العسكريين من الحرس الثوري الإيراني. واستطاعت إيران أن تضع موطئ قدم على الساحل الإريتري المطل على البحر الأحمر، وساهم هذا التغلغل الإيراني في القرن الأفريقي بشكل كبير في إعادة رسم خارطة جديدة للنفوذ البحري لإيران والذي استعملته في ضرب الملاحة البحرية عبر مضيق باب المندب، وإلحاق الضرر بمصالح الدول الخليجية بشكل خاص.
بما أن أفريقيا رهينة وضع اقتصادي سيء أفرزه الصراع في أوكرانيا فإن احتمالية وقوع انقلابات عسكرية ترعاها الولايات المتحدة ودول أوروبية.. وارد جدا
ورغم الاختلاف المذهبي مع تنظيم القاعدة والحزب الإسلامي الإريتري للعدالة والتنمية، الذي ينتمي فكريا لجماعة الإخوان المسلمين، إلا أن ذلك لم يمنع من تقديم الدعم اللوجيستي وتمويل المعسكرات التدريبية من باب تقاطع المصالح ووجود أهداف مشتركة. في المقابل كان مشروع تصدير الثورة الإسلامية سببا وجيها في أن تختار مصر والجزائر وتونس والمغرب سياسة القطيعة الهادئة مع النظام الإيراني، لما يحمله مشروعه من خطر حقيقي، مع وجود تنظيمات إسلامية كالإخوان المسلمين في مصر وتونس والتيار السلفي في الجزائر لها تقارب فكري مع إيران، ومن الطبيعي أن توظفه كأداة لضرب السلطة في هذه الدول.
وإلى جانب مشروع تصدير الثورة في القرن الأفريقي، ترى إيران في أفريقيا سوقا يمكنها من الالتفاف على العقوبات الغربية ويسمح لها بتصدير نفطها ومنتجاتها المحلية كالسيارات وصناعات السلاح، وحتى في تبييض الأموال الخاصة بحركات المقاومة التي تتبناها إيران في الشرق الأوسط. ومنذ مجيء أحمدي نجاد على رأس السلطة قادت طهران رحلة إعادة استكشاف أفريقيا بنظرة جديدة تعتمد على سياسة تثمين العلاقات وتصويبها نحو المصلحة الاقتصادية، خاصة وأن حاجة إيران إلى اليورانيوم الذي تستعمله في برنامجها النووي تجعلها أمام ضرورة تقديم المقابل للبلدان التي توفر لها هذا المعدن الثمين، لهذا رصدت إيران المزيد من المحافظ المالية لدعم الأنظمة الموالية لها، ودعمت العديد من المشاريع التنموية والثقافية والصحية في زيمبابوي وأوغندا والسنغال وكينيا، لتضمن بذلك استمرار تدفق شحنات اليورانيوم وكسر الحصار المفروض عليها عبر الأسواق الغربية من خلال التوجه إلى السوق الأفريقية.
من محور مقاومة إسرائيل في الشرق الأوسط إلى محور مقاومة الغرب في أفريقيا، تجد إيران نفسها مجبرة على الدفاع عن مصالحها في أفريقيا لكنها تصطدم بعوائق عديدة منها بعدها الجغرافي الذي لا يسمح لها بمد جسور نحو أسواق أفريقيا تسمح بالاستفادة المثلى من توسيع نشاطاتها الاقتصادية. كما أن وجودها في الأصل في أزمة اقتصادية خانقة لا يسمح لها بتقديم مغريات جديدة تمكنها من ضمان استمرارية نفوذها وبقاء حلفائها الأفارقة في صفها إلى وقت أطول، خاصة في ظل منافسة صينية – روسية – هندية يتحرك فيها كل طرف بمفرده، تقابلها محاولات أوروبية أميركية لكسر هذا النفوذ.
وبما أن أفريقيا رهينة وضع اقتصادي سيء أفرزه الصراع في أوكرانيا فإن احتمالية وقوع انقلابات عسكرية ترعاها الولايات المتحدة ودول أوروبية تستبدل فيها أنظمة موالية للشرق بأنظمة موالية للغرب وارد جدا، ومن هذا المنطلق فإن التحركات الإيرانية نحو أفريقيا لا يمكن أن تأتي بشيء جديد إذ أنها تأتي متأخرة ولا تقدم الجديد، كما أنها تأتي في وقت يضع فيه الغرب أعينه على القارة السمراء في محاولة لقطع الطريق أمام الصين وروسيا ومنعهما من التغلغل في هذه المنطقة الغنية بالثروات.