إيران تستعرض قوتها وتركيا تتحرك لتبدو منقذة منها

أدى تراجع الدور العربي إلى منح إيران حرية أكبر للحركة في منطقة الشرق الأوسط، ومحاولة التأثير في تطوراتها عسكريا بما يخدم مصالحها، ووفر التمدد الإيراني والطموحات الواسعة لطهران فرصة لتركيا لتبدو دولة قادرة على نجدة المنطقة من شبح التغول الإيراني، وكلاهما لم يعدم الوسائل السياسية والأمنية لفتح قنوات اتصال مع الآخر لتقليل فرص الاشتباك بينهما في العراق وسوريا أو أيّ دولة لدى كليهما أطماع فيها.
ويشبه التفكير في سيناريو لإعادة تأهيل تركيا بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان سيناريو دخولها قبل نحو 15 عاما المنطقة العربية وهي محملة بأحلام كبيرة، حيث اعتقدت قيادتها أن صعود تيار الإسلام السياسي سوف يمكّنها من توسيع نطاق نفوذها في المنطقة، وقد يصبح المعادل السُني القوي لإيران الشيعية التي استمدت نفوذها من شعارات ثورتها البراقة وانتشار أذرعها عسكريا في المنطقة، بينما أنقرة تصورت أنها قد تتحول إلى رقم قوي بعد أن راودتها أحلام عودة الخلافة الإسلامية عندما رأت زحفا سياسيا لافتا لجماعة الإخوان في عدد من الدول العربية.
وتكسرت أحلام أردوغان عقب تقويض عملية صعود الجماعات الإسلامية في المنطقة، بينما صمدت صخرة إيران العسكرية ومن معها من أذرع مسلحة رئيسية في أربع دول عربية (العراق، سوريا، لبنان، اليمن)، وبدأت طهران تتضخم مع دخولها لأول مرة مواجهة عسكرية مباشرة ضد إسرائيل مؤخرا، ما أثار مخاوف عربية وغير عربية، فصعود إيران الجديد يتماس مع القضية الفلسطينية، مع أن مناوشاتها العسكرية مع إسرائيل لم تكن بسبب الحرب على غزة، فربما تكون المناوشات إحدى روافدها التي حاولت طهران الاستثمار فيها والقفز على ظهرها.
واستخدمت تركيا تكتيكا يمكن تحديده في العبارة التالية: “اترك إيران تستعرض قوتها وخطرها ثم تحرك لتكون المنقذ”، ولدى أردوغان أمل أن يجد الطريق ممهدا أمامه، لكن حتى الآن تبدو الأجواء غير مواتية، فعند أول اختبار لجس النبض حول مسألة القيام بدور الوساطة في صفقة الأسرى بين إسرائيل وحركة حماس، وجد الرجل ممانعات عدة قبل أن يخطو خطوة واحدة في هذا الطريق، واضطر إلى التراجع بانتظار قضية أخرى يمكن أن يمارس فيها دورا ملموسا.
فما يدركه الرئيس التركي أن عملية إعادة التموضع التي بدأها منذ حوالي ثلاثة أعوام عبر تحسين علاقاته مع السعودية والإمارات ومصر لم تحقق أهدافها كاملة، فلدى هذه الدول هواجس من طموحاته الخفية، والتقدم الذي تم أخيرا لا يشفع له كي يتحدث عن علاقات قوية مع الدول الثلاث، فقد تلاقت رغبة أردوغان في التهدئة الإقليمية مع رغبة هذه الدول، وجاءت النتيجة في شكل تحسن نسبي يمكن أن يتغير إذا تنصلت تركيا من وعودها السياسية، ولذلك كان الشق الاقتصادي الأكثر انتعاشا، لأن حساباته المادية مناسبة للجميع، بينما السياسي أو الإستراتيجي شهد تقدما طفيفا، ويحتاج تكبيره إلى عملية واسعة لتبديد الشكوك في أجندة أنقرة الخفية.
الواضح أن هناك قوى إقليمية ودولية لا تريد تكرار ما فعله أردوغان في المنطقة، فقد جاءت محاولات التمدد في المرحلة الأولى من خلال أدوات عسكرية، في سوريا والعراق وليبيا، وعبر وسائل محلية مسلحة غالبيتها ذات ميول إسلامية، وفي المرحلة الراهنة يوحي الرئيس التركي أن أدواته كلها ناعمة، وعازم على فتح صفحة جديدة، مستفيدا مما يقبض عليه من ملفات ربما يستطيع بها تفكيك بعض الأزمات، على عكس إيران التي زادت تعقيدها بعد دخولها مواجهة محدودة ضد إسرائيل.
ويصعب أن يجد الرئيس أردوغان من يساعدونه على إعادة إنتاج ما فعله في المرة السابقة، ولو اتجه إلى تغيير أدواته أو أبدى مرونة في تسوية بعض الأزمات أو قدم نفسه على أنه المقابل الموضوعي لإيران في المنطقة، فالبراغماتية التي يتميز بها تخيف من يريدون تطوير علاقاتهم معه، فلا غضاضة عنده أن يمد إسرائيل بمساعدات عسكرية ويستضيف قيادات من حماس في بلاده، ولا مشكلة في أن يرسل إلى إسرائيل مواد غذائية بعد تعرض سفنها لمضايقات في جنوب البحر الأحمر ثم يمنع تصدير 54 منتجا لها ويوجه لرئيس حكومتها اتهامات عنصرية.
وتسببت هذه المروحة الواسعة من التناقضات في رفع الشكوك في نواياه من جهات متعددة، ويمكن إمعان النظر في الكثير من تصرفاته مع روسيا والولايات المتحدة، والتي تؤكد في معظمها أن براغماتيته المفرطة مزعجة لأيّ دولة، ما يجعل فكرة التعامل معه كمنقذ لا تنطلي على الكثيرين، فما يخفيه أكثر مما يبطنه في بعض القضايا، عكس إيران التي تختلف أو تتفق معها لكنها واضحة في خصومتها، وإن غلفتها ببراغماتية من أجل الدفاع عن مشروعها، وإن لجأت عمدا لاستعراض قوتها.
◙ أردوغان لم ينجح في كسب ثقة قوى إقليمية ودولية، وعلاقاته الجيدة مع بعضها لا تعني منحه توكيلا للدفاع عن مصالح قوى عديدة بمواجهة إيران
فهم أردوغان استعراض القوة من قبل طهران على أنه يحتاج إلى بديل لصده، لأن هذا المحدد في السياسة الإيرانية يوفر مبررات لقوى إقليمية ودولية لتقويضها، وليس لخلق بديل لها مثل تركيا، ويعلم الكثيرون أن رئيسها عندما يتمكن ويبسط سيطرته قد يأتي بتصرفات لا تقل بشاعة عن طهران، فالأجندة التي يحملها ويخفي معالمها تصب في المربع نفسه الذي تتبناه إيران وهو الميل الأيديولوجي لتوظيف القوى الإسلامية.
اعتقد أردوغان في المرة الأولى أنه يستطيع استمالة شعوب الدول العربية والإسلامية السنية إلى جواره من دون أن يفصح عن رغبة في الصدام مع إيران، وفي هذه المرة سيكون مضطرا إلى الإعلان عن ذلك، إذا نجحت خطته كمنقذ أو تمكن من تسويقها، إذ عليه أن يتخلى عن علاقاته الوثيقة بإيران.
ومن غير المنطقي أن يكون المنقذ من عدوّ على علاقة قوية به، وهي أزمة أخرى لا يستطيع النظام التركي تبنّيها في الوقت الراهن، لأنها قد تفقده الكثير مما راكمه من مكاسب مع إيران وروسيا أيضا، ولن تمكنه هذه السياسة من الحصول على مكاسب أكبر من الفريق المقابل لهما، والذي يعلم عيوب كل قوة وثغراتها.
لم ينجح أردوغان في كسب ثقة قوى إقليمية ودولية متباينة، وعلاقاته الجيدة مع بعضها والهادئة مع البعض الآخر لا تعني منحه توكيلا للدفاع عن مصالح قوى عديدة في مواجهة إيران، فما تقوم به الأخيرة من ابتزازات بات معلوما، لكن لا أحد يضمن طبيعة الابتزاز التركي المعروف أنه معبّأ بطموحات لها مكونات تاريخية قد تكون أشد ضراوة من تلك التي في جعبة طهران.
لن تستطيع المنطقة العربية الفكاك من فخ إيران أو شرك تركيا إلا بقيام دولها الرئيسية بتبني مشروع إقليمي يدافع عن مصالحها، ولا يجعل بعضها عرضة لاستنزاف بسبب مواجهات تفتعلها طهران من وقت إلى آخر، أو أطماع تحملها أنقرة وتريد تحقيقها مستفيدة من فوبيا إيران التي يجري النفخ فيها عمدا أحيانا.