إننا لا نقرأ نفس الكتاب الواحد مرتين
إلهام عدوان، أرملة الكاتب السّوري ممدوح عدوان، تذكرتها فجأة وبلا مقدمات، ثم تذكرت أنّها فارقت الحياة قبل شهور لا أذكر عددها. في غمرة العاصفة وفي غفلة من الجميع ترجلت عن ركب الأحياء دون أن تلفت انتباهنا. وأنّى لنا أن ننتبه إلى فراقها ونحن لم نمض دونها، بل لم نمض أساسا، فإن الأفق لا يزال مغلقا؟ بل، كأننا لم نصدق بأنّ سماء سوريا المزدحمة بالأرواح لا يزال فيها متسع لموت آمن لامرأة كانت تعشق الحياة. هي، ربما أدركت بأنّ لا مكان لغياب يترك أيّ حرقة في أتون المحرقة ففضلت أن تتسلل خلسة إلى عالم الغياب.
لم يتعدّ لقائي بها زهاء نحو ساعة أو يزيد عنها قليلا، لكنها تركت أثرا باقيا في الذهن والوجدان حول نموذج نسائي للولع الدمشقي بالحياة. النماذج الذكورية عرفت منها ما يكفي، أصدقاء كثيرون رغم الإبادة يواجهون رتابة الموت بملاعبة فقاعات الحياة، ليس استهتارا بأنفسهم، أبدا، فإن مسرح العبث نفسه يُعدّ التزاما بالحياة، ومن قال العكس؟ تذكرت هديتها لي في ساعة اللقاء تلك، كتاب زوجها الكاتب الرّاحل ممدوح عدوان، “دفاعا عن الجنون”.
وعدتها بقراءته، فقرأته بلهفة ونشوة، لكن سرعان ما تلاشت الكلمات وامحت العبارات أمام قسوة الأسئلة وعنف الأحداث، ولم أجد ما أقوله لها في الأخير سوى سؤال طرحته على نفسي : هل هناك ما يبرر الجنون عقب اندلاع ثورات مفعمة بالآمال؟ كان هذا قبل نحو ثلاث سنوات.
استحضرتُ ما ذكرتُه، ثم عدتُ إلى قراءة ذلك الدفاع المستميت عن الجنون. وهذه المرّة أعدتُ قراءته كما لو أني أقرأه للمرّة الأولى. أمعنتُ النظر فيما لم أنظر إليه من قبل، حكاية لؤي كيالي، ذلك الرسّام السّوري الذي قادته محنة الوطن وفلسطين والنكسة والهزيمة إلى حافة الجنون قبل أن يموت محترقا. مشكلة لؤي وكما أدركها ممدوح عدوان أنه لم يفجر جنونه في شكل إبداعي كما كان ينبغي، فقد شلت الجدية قدرته على الإبداع، لم يفجر مكنونه في شكل لحظات من الجنون الأصغر، فكان أن وقع في محظور الجنون الأكبر. إنّه الدّرس الأكثر راهنية أمام حجم الخيبة والإحباط.
قد تمضي سنوات أخرى، ولا ندري ما المآل؟ وقد أعود لقراءة نفس الكتاب، وربما أقرأه كما لو كان كتابا جديدا لم أقرأه من قبل. ولا بأس، فإننا لا نقرأ نفس الكتاب الواحد مرّتين.