إنعاش التوافق.. حيلة النهضة لقبر كابوس "الجهاز السري"

موضة، وذريعة التوافق، كانت نتاجا للقاء باريس الشهير بين راشد الغنوشي والباجي قائد السبسي، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى ما يشبه العقيدة السياسية لدى قادة النهضة وخاصة منهم الموالين لزعيمها راشد الغنوشي.
الجمعة 2018/10/12
خطط الغنوشي لإحياء التوافق مع السبسي، قد باءت مبدئيا بالفشل

يبدو أن حيلة التوافق التي يلجأ إليها رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي في كل مرة، قد تحوّلت في أدبياته من حيلة مؤقتة يتم توظيفها لكسر كل العقبات التي تعترض حركته الإسلامية إلى “عقيدة” ثابتة ينهل منها ويرتكز عليها عند الشدائد وخاصة لدى هبوب أي رياح قد تنبئ بتبدد مشروعه السياسي الإسلامي.

آخر الملفات الخطيرة الذي كاد يسقط ورقة التوت وعجّل بعودة راشد الغنوشي إلى تلك الأسطوانة المشروخة الحبلى بمعاني التوافق والتشاور والتقارب، تمثل حتما في كابوس الجهاز السري الذي كشفت عنه هيئة الدفاع عن الزعيمين السياسيين التونسيين شكري بلعيد ومحمد البراهمي والذي قالت إنه تابع لحركة النهضة.

مباشرة عقب الكشف عن قضية الجهاز السري الذي شكلته، وفق وثائق وتسجيلات نشرتها هيئة الدفاع، النهضة لإحكام القبضة على البلاد ولتصفية كل خصومها عقب ثورة يناير 2011، عقدت النهضة الدورة الثانية والعشرين لمجلس الشورى بصفة استعجاليه والذي قرّر تحت يافطة “البحث عن مخارج لأزمات البلاد السياسية والاقتصادية” تكليف زعيم الحركة راشد الغنوشي بلقاء الرئيس الباجي قائد السبسي ومن بعده رئيس الحكومة يوسف الشاهد.

الارتباك والتذبذب الحاصلان صلب قيادات وقواعد حركة النهضة بسبب لعنة “الجهاز السري” التي تطارد أهم قياداتها وفق هيئة الدفاع عن بلعيد والبراهمي، أعادا بصفة أوتوماتيكية إلى ذاكرة الغنوشي أن لديه مفتاح حيلة “إنعاش التوافق” الذي يكون ربما الخلاص الأمثل القادر على إخراجه وحركته من المأزق الجديد، لتكون أولى الكلمات التي أصدح بها عقب لقائه الرئيس السبسي “أكدنا لسيادة الرئيس حرص حركتنا العميق على خيار التوافق والتشاور لحل كل الأزمات”.

لكن يبدو أن خطط الغنوشي لإحياء التوافق مع نداء تونس وخاصة مع الرئيس السبسي، قد باءت مبدئيا بالفشل بعد أن استقبله الرئيس التونسي ببرود كبير في لقاء لم يدم أكثر من خمس عشرة دقيقة، تكلم فيه الغنوشي عن التوافق والتعايش أكثر مما تكلم فيه قائد السبسي الذي يعي جيّدا أن التطورات الجديدة وهبته هدية ثمينة سيعيد عبرها حركة النهضة إلى عباءته خاصة أنه يبحث بدوره عن مخرج لما ورطته فيه النهضة سياسيا بدعمها اللا متناهي لرئيس الحكومة يوسف الشاهد.

كل هذه التحركات لا تحجب أن خطوة الغنوشي جاءت مكرهة وفي غير وقتها بالمرة، باعتبار أن قضية “الجهاز السري” التي تتشبث الحركة بأنها مفتعلة ومفبركة أفسدت كل شيء، بل وأعادت خلط كل الأوراق السياسية، خاصة في علاقة بالباجي قائد السبسي الذي أعلن عن فك الارتباط بالنهضة بسبب تعنتها عبر تمسّكها بمساندة الشاهد غير المرغوب فيه من قصر قرطاج.

والدليل على تراجع الغنوشي خطوات وليس خطوة فحسب إلى الوراء، أنه عاد وبعد أن ساهم في استقواء الشاهد على الرئيس السبسي إلى الحديث عن وجوب إذابة الجليد بين الطرفين، وكل هذا الحديث كان ضمن فحوى لقائه بالشاهد يوما فقط بعد مقابلة الباجي قائد السبسي.

وتؤكد تحركات الغنوشي المتسارعة، أن الحركة الإسلامية المتمترسة في الحكم منذ عام 2011 باتت تتقن أكثر من أي وقت مضى فن المناورة بل واستوعبت أيضا أن منطق التواصل في السياسة يستوجب تنازلات للمحافظة على البقاء وأهمها “المقايضة بالملفات” التي أخرجتها في أوقات سابقة من مطبات عدة كادت تعصف بوجودها أصلا.

أما عن كل ما أثارته قضية “الجهاز السري” فينحصر أساسا في إعادة  الأذهان إلى تلك الفترة المفصلية في تاريخ تونس أعوام 2011-2012-2013 وتحديدا عقب اغتيال بلعيد والبراهمي وخاصة كيف اختارت النهضة على مضض سلك طريق “الانحناء إلى أن تمر العاصفة” تجنبا لمعرفة نفس مصير الإخوان المسلمين في مصر، فلم تجد آنذاك مخرجا أمامها سوى الركون إلى مفاوضات الحوار الوطني ومن ثمة التشبث بمسلك آمن آخر عبر التحالف مع الباجي قائد السبسي رغم الاتهامات الخطيرة المتبادلة بين الطرفين في حملات انتخابية كانت قائمة بالأساس على استقطاب ثنائي.

ولم يقتصر جنوح قيادات النهضة لدحض كل الاتهامات أبدا على لعب ورقة التحالف مع الرئيس أو رئيس الحكومة فحسب، بل إنها حاولت وفي صمت قبر كل الملفات التي قد تدينها، ومنها تلك المودعة بأدراج  البرلمان التونسي والداعية أساسا إلى وجوب تحديد المسؤوليات السياسية والأخلاقية عمّا حصل في تونس من انفلاتات وارتدادات للجماعات الإسلامية المتطرفة بالبلاد خلال فترة حكم الترويكا.

هنا بالذات، فإن حركة النهضة وجدت في دعمها لرئيس الحكومة يوسف الشاهد قشة نجاة لا يمكن التفريط فيها،  فكانت مخططاتها قائمة بالأساس على وجوب تحصيل مغانم سياسية قيّمة تضمن بقاءها، وتوّجت مؤخرا  بذلك التقارب السياسي غير المتوقّع وغير الطبيعي مع كتلة الائتلاف الوطني الناطقة بطريقة غير مباشرة باسم الشاهد. وتدرك النهضة جيّدا بخطوتها هذه أن كتلة الائتلاف هي الماسكة فعليا عبر بعض نوابها بلجنة التحقيق البرلمانية التي تم تشكيلها للبحث والتقصي في ملف شبكات تسفير الشباب التونسي إلى بؤر التوتر بعد ثورة يناير 2011.

موضة، وذريعة التوافق، كانت نتاجا للقاء باريس الشهير بين راشد الغنوشي والباجي قائد السبسي، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى ما يشبه العقيدة السياسية لدى قادة النهضة وخاصة منهم الموالين لزعيمها راشد الغنوشي، والدليل على ذلك إدراك الحركة أن مثل هذه الشعارات المزوقة بالتعايش باتت هي الكفيل لتخفيف وطأة كل ما يُحمل لها من مسؤوليات عن فترة حكمها ولذلك عمدت إلى تعميم “كلمة التوافق” حتى ضمن قواعدها وتوجهاتها الفكرية بإعلانها في مؤتمرها السادس لتوافق بين قياداتها على أرضية فكرية وسياسية جديدة “توافقية” قوامها الفصل بين الدعوي والسياسي، وهو نهج لم يترجم عمليا على أرض الواقع في ظل تواصل الحروب الداخلية بين “الحمائم” و”الصقور”.

12