إلهان عمر ومحاكم التفتيش في الولايات المتحدة

العنصرية البنيوية التي تهيمن على مؤسسات السلطة في الولايات المتحدة تعتبر أن المسيحيين واليهود يتشاركون قيما عليا مضادة للقيم "البربرية" التي تسود في العالم العربي والإسلامي، وهو ما يجعل إسرائيل حليفا طبيعيا للولايات المتحدة.
السبت 2019/02/16
تصريحات لم ترق للمعسكر الداعم لإسرائيل

تتواصل حملة الانتقادات الأميركية ضد النائبة في الكونغرس الأميركي، إلهان عمر، على خلفية التغريدة التي نشرتها والتي تعتبر أن الدعم الأميركي لإسرائيل تقف وراءه أموال “لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية” (إيباك). الانتقادات أتت من قبل المعسكر الداعم لإسرائيل، وهو معسكر واسع وعابر للخلافات الأيديولوجية بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري. اعتبر هذا المعسكر أن تلميحات عمر لقوة “المال اليهودي” هي جزء من الخطاب المعادي للسامية. اضطرت تلك الانتقادات عمر للاعتذار، مع التمسك بالتأكيد على إشكالية الدور الذي تلعبه مجموعات الضغط بصورة عامة في الولايات المتحدة، ويشمل ذلك منظمة “إيباك”.

هكذا، حاولت عمر، محقة، التراجع عن ربط عمليات الضغط  وابتزاز السياسيين الأميركيين ودفعهم لاتخاذ مواقف داعمة للكيان الصهيوني باليهود بصورة عامة مدركة أن الخطابات المعادية للسامية تنطلق من أسطورة القوة الاستثنائية والخبيثة للمال اليهودي، ولليهود أنفسهم، الذي يسيطر ليس على الولايات المتحدة فقط بل على العالم.

والحال أن العامل الأبرز للربط بين الكيان الاستيطاني العنصري واليهود بصورة عامة ليس النائبة عمر بل دولة إسرائيل وحكوماتها المتعاقبة. نحن أمام دولة تصف نفسها بأنها دولة الشعب اليهودي، وحكومة تدعي أنها تمثل كافة اليهود في العالم. عندما يسقط ضحايا يهود في هجمات إرهابية في مدن أوروبية وفي الولايات المتحدة، تهرع الحكومة الإسرائيلية لإيفاد من يمثل أولئك الضحايا ويدافع عنهم بمجرد كونهم يهودا، وحتى من دون أن يحملوا الجنسية الإسرائيلية. وفوق ذلك تواصل تلك الدولة ارتكاب أبشع الجرائم بحق الفلسطينيين وهي الاحتلال الوحيد المتبقي في هذا العصر.

هنالك أعداء كثيرون لإسرائيل ليس في الوطن العربي فقط بل في كل أنحاء العالم، وهنالك من يعمل باستمرار على إبراز إسرائيل كممثل لليهود حول العالم مساهما بنشر معاداة السامية. وفي نفس الوقت، أكدت عمر، محقة أيضا، على دور منظمة “إيباك” في دعم إسرائيل إذ تنفق المنظمة مئات الملايين من الدولارات لشراء السياسيين وتمرير قرارات تدعم إسرائيل وتشدد الخناق على الناشطين الداعمين للقضية الفلسطينية، فضلا عن الضغوط التي تمارسها على وسائل الإعلام والمؤسسات الأكاديمية.

ومع ذلك، تكمن إشكالية ربط السياسة الأميركية الداعمة لإسرائيل بفعالية منظمة “إيباك”، كما فعلت عمر، بأننا سنكون إزاء حالة يحرك فيها ذيل الكلب الكلب نفسه، وهو أمر غير ممكن على الإطلاق. فلا يمكن للمال الذي تقدمه “إيباك” أو أيٍ من مجموعات الضغط أن يخلق هذا الإجماع شبه التام حول دعم إسرائيل وحمايتها.

هنالك عوامل كثيرة تعزز من الربط البنيوي والعضوي بين الولايات المتحدة والدولة الصهيونية. العامل الأهم هو المصالح السياسية والاقتصادية للدول الإمبريالية، بريطانيا أولا والولايات المتحدة لاحقا، والتي ساهمت بإنشاء الدولة الصهيونية كقاعدة عسكرية متقدمة لتلك المصالح وكشرطي في الشرق الأوسط يواصل شن العدوان العسكري متى تطلب الأمر، ويساهم في زيادة التطرف الديني الذي تسهل مواجهته.

ولكن هذا العامل لا يكفي لتفسير التغاضي الأميركي عن ممارسات إسرائيل الإجرامية واستمرار مشروعها الاستيطاني وإنشاء دولة “أبارتهايد” ورفض أي شكل من أشكال السلام بما يشكل حرجا متزايدا للولايات المتحدة ولا يتفق تماما مع مصالحها القومية. وهنا تبرز أهمية العامل الآخر المتعلق بقوة تيار المسيحية-الصهيونية في الولايات المتحدة والذي ينتمي إليه عدد كبير جدا من السياسيين في الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وهو تيار يستند لقاعدة شعبية شديدة التدين وتعمل على دعم إسرائيل التزاما بتعليمات الرب والتي تقضي بضرورة “إنشاء وطن قومي لليهود في أرض الميعاد”.

ويرتبط هذا بعامل آخر هو العنصرية البنيوية التي تهيمن على مؤسسات السلطة في الولايات المتحدة والتي تعتبر أن المسيحيين واليهود يتشاركون قيما عليا مضادة للقيم “البربرية” التي تسود في العالم العربي والإسلامي، وهو ما يجعل إسرائيل “حليفاً طبيعيا” للولايات المتحدة. وأخيرا بالطبع، ليست للاحتلال الإسرائيلي تكلفة حقيقية، إذ يغيب أي مشروع مقاومة عربي يعقد من حسابات الطبقة السياسية الأميركية.

تقلل كلمات عمر من شبكة العوامل آنفة الذكر، والتي تشكل أساس الدعم الأميركي لإسرائيل، وتركز بدلا من ذلك على أموال “إيباك” المؤثرة بالفعل، ولكن غير الكافية أبدا لتفسير العلاقة الأميركية الإسرائيلية. على النائبة عمر أن تكون أكثر حذرا ووعيا بالطبيعة المركبة للعلاقات الإسرائيلية-الأميركية ولحساسية وخطورة الحديث أو التلميح حول “المال اليهودي” الذي يجعلها صيدا سهلا لداعمي إسرائيل.

ولكن، وعلى الرغم مما يمكن توجيهه من ملاحظات نقدية لعمر، يجب رفض محاولات إدراج تصريحاتها النقدية تحت بند معاداة السامية. لطالما استخدمت تهمة “معاداة السامية” كسلاح لإسكات الأصوات الناقدة للسياسات الإسرائيلية في داخل وخارج الولايات المتحدة.

إن هذا السلاح الذي يهدف إلى كبت حرية الرأي والتفكير هو سلاح رجعي لا ينتمي إلى العصر الحديث بل إلى العصور الوسطى. ويا له من أمر محزن بالفعل أن ترى أعضاء ديمقراطيين انتخبوا من أجل “تمثيل الشعب” على أساس دستور حديث يحمي الحريات، يطالبون بإسكات حرية التعبير ومعاقبة وإبعاد من ينتقد، لا الدولة الأميركية، بل دولة أجنبية هي دولة إسرائيل. يوضح ذلك مدى الرجعية التي بلغتها تلك الدولة العنصرية، وكيف أنها باتت تشد العالم للوراء، نحو عصر محاكم التفتيش، حيث يمكن إحراق إلهان عمر بتهمة معاداة السامية.

9