إغراءات داخلية للعمالة المصرية

الرئيس السيسي يعيد تحويل البوصلة إلى اتجاهها الصحيح للاستفادة من الإمكانيات المتوافرة حاليا ويعمل على منح مؤسسات الدولة وقتا لإعادة توظيف الأيدي العاملة بعد أن أدمنت السعي للسفر بشتى الطرق.
الثلاثاء 2022/01/04
الحكومة تواجه معاناة في إقناع العمالة المحلية بالعمل في مشروعاتها وتوفر وسائل راحة لهم ولا تجد التجاوب المناسب

أدى استشعار الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي للخطورة الكبيرة التي تنطوي عليها عملية العودة التدريجية للعمالة المصرية من دول عديدة إلى توجيه جزء معتبر من المشروعات التنموية إلى إقليم الصعيد في جنوب البلاد أخيرا، والذي كان أحد مصادر توريد الأيدي العاملة إلى المدن الكبرى بمصر.

اعتادت مصر تصدير العمالة إلى العراق والأردن وليبيا ودول الخليج في السنوات الماضية، ومع تراجع فرص العمل المتاحة للعمالة الأجنبية في هذه الدول بدأت الحكومة تعاني من أزمات معقدة، فالعودة الكثيفة والمستمرة مع قلة المتاح في العمل بدأت تصطحب مشكلات اقتصادية واجتماعية قابلة للتزايد خلال السنوات المقبلة.

لجأت القاهرة إلى التوسع في التنمية بإقليم الصعيد لأجل خلق فرص أمام العائدين، وكبح الراغبين في السفر أيضا واستيعاب أعداد كبيرة منهم قبل تحولهم إلى عبء كبير في ظل الانسداد الحاصل في مجال العمل بالخارج، وربما يصبح هؤلاء قنابل موقوتة ترتد إلى صدر النظام الحاكم الذي يواجه أزمة بطالة محتدمة.

الحكومة تسير بالتوازي في التعامل مع الأيدي العاملة بأنواعها؛ حيث تسعى لاستيعاب العمالة التقليدية في الزراعة والصناعات الخفيفة، وتحاول خلق فرص جيدة أمام العمالة الماهرة والاستفادة من المواهب في مجالات متباينة للحد من هجرة الكفاءات

قدمت الحكومة مغريات لتستوعب المشروعات الجديدة مئات الآلاف وربما الملايين من الأيدي العاملة، لأن الخطة التنموية تسير بطريقة أفقية وتتوزع على مناطق متعددة لتخفيف المشكلات الناجمة عن ضيق الفرص أمام الهجرة المعتادة للعمالة المصرية.

يبدو التوجه المصري غير حالم هذه المرة ومتسقا مع الواقع، فغالبية المشروعات التي جرى تدشينها مؤخرا أو يتم العمل فيها تركز على زيادة الرقعة الزراعية والتوسع في الصناعات الخفيفة، والتخلي عن طموحات راودت الرئيس المصري الأسبق جمال عبدالناصر في تحويل مصر إلى بلد يعتمد على الصناعات الثقيلة.

كبدت هذه التجربة الدولة خسائر باهظة، فلم تتحول إلى بلد صناعي وفقدت ريادتها الزراعية وأخذت تتخبط بين الطريقين، بما أضاع الكثير من الطموحات، وبدت أجهزة الدولة مرتاحة للهجرات المتتالية من قِبَل العمالة المصرية التي لعبت دورا في زيادة الدخل القومي عبر تحويلات العاملين بالخارج.

يقوم الرئيس السيسي بتعديل البوصلة وتحويلها إلى اتجاهها الصحيح ويحاول أن يضبطها للاستفادة من الإمكانيات المتوافرة حاليا، والتي لا تساعد على طرق أبواب الصناعات الثقيلة والمنافسة فيها، ويعمل على منح مؤسسات الدولة وقتا لإعادة توظيف الأيدي العاملة وتوطينها في الداخل بعد أن أدمنت السعي للسفر بشتى الطرق.

يركز التوجه الرسمي المصاحب لترويج مشروعات التنمية على هذه المسألة دون أن تتضح درجة الاستجابة والتفاعل معها، فشريحة كبيرة من المصريين تتعامل مع السفر إلى الخليج مثلا على أنه مصدر للثروة ونافذة لتغيير الواقع الاقتصادي.

العمالة

لا يزال هذا الأمر حاضرا في العقل الجمعي لكثيرين، ولن يغير هؤلاء قناعاتهم ما لم تكن الحكومة قادرة على تبديل هذا التفكير الذي جاء كحصيلة طبيعية لتراكمات تاريخية أفقدت الثقة في الحلول الداخلية المغرية واستسهلت التعامل مع الحلول الخارجية وما تحمله من متاعب معنوية.

ظهر لدى كل طرف ارتياح للنتيجة التي وصل إليها، فالحكومة اعتبرت العمالة بشتى أطيافها مصدرا للعوائد الاقتصادية السخية سنويا، والعمالة استطاعت أن تجلب مكاسب مادية شجعت أصحابها على الدوران في حلقاتها المستمرة والتكيف مع الصعوبات التي تعتريها بما أدى إلى البقاء فترات طويلة.

ضربت الصراعات ليبيا خلال السنوات الماضية ولا تزال، غير أن عددا كبيرا من المصريين يتشبثون بفكرة البقاء هناك وتحمل الآلام والأوجاع، ويحلمون باليوم الذي تستقر فيه الأوضاع لاستقدام المزيد من أفراد عائلاتهم وأصدقائهم في مصر، على الرغم من تعرضهم لعمليات اختطاف مستمرة على أيدي ميليشيات مسلحة.

تواجه الحكومة معاناة في إقناع العمالة المحلية بالعمل في مشروعاتها وتوفر وسائل راحة لهم ولا تجد التجاوب المناسب، وهي أزمة مرتبطة بالمصداقية المهتزة، فقد وعدت حكومات سابقة المواطنين بتوفير فرص عمل مناسبة لهم كذّبها الواقع.

يفسر إصرار البعض على السفر إلى ليبيا عبر طرق غير قانونية جانبا من المأزق الذي تواجهه الحكومة يُضاف إلى تصميم آخرين على البقاء في الأردن وكسر القوانين التي تمنع ذلك عقب تشديد المملكة على تقنين العمالة بما انعكس سلبا على المصريين.

قرأ السيسي النتيجة القاتمة المتوقعة لاستمرار نزيف العودة من الخارج، ويعمل على إعادة صياغة منظومة الثقة بين الدولة وهؤلاء، ولذلك تجد خطابه دوما يتوجه نحو التأكيد على أن هناك فرصا واعدة للعمل في المشروعات الجديدة، وقد استجاب البعض وتعامل مع النداء بجدية وحقق تقدما ملموسا في الأماكن التي ذهب إليها.

الحكومة المصرية قدمت مغريات لتستوعب المشروعات الجديدة مئات الآلاف وربما الملايين من الأيدي العاملة، لأن الخطة التنموية تسير بطريقة أفقية وتتوزع على مناطق متعددة لتخفيف المشكلات الناجمة عن ضيق الفرص أمام الهجرة المعتادة للعمالة المصرية

تظل هناك فئة مترددة لا تتورع عن عبور البحر المتوسط لبلوغ دول أوروبا بطرق ملتوية وقاسية، والسير في الصحراء للسفر إلى ليبيا وتحمل تكاليفه، أو البقاء في الأردن بما يخالف القوانين المحلية، بالتالي لم تحقق التنمية المردودات المتوقعة منها في مجال تجسير الهوة الواسعة في حقل الأيدي العاملة المصرية، وأخفقت حتى الآن الحوافز المعلن عنها في هدم فكرة السفر إلى الخارج.

تسير الحكومة بالتوازي في التعامل مع الأيدي العاملة بأنواعها؛ حيث تسعى لاستيعاب العمالة التقليدية في الزراعة والصناعات الخفيفة، وتحاول خلق فرص جيدة أمام العمالة الماهرة والاستفادة من المواهب في مجالات متباينة للحد من هجرة الكفاءات.

إذا كانت الأولى يمكن أن تتغير بموجب العوامل الجاذبة نسبيا نحو الداخل والطاردة في الخارج، فالثانية تظل الأزمة الحقيقية، لأن الكفاءات من السّهل أن تجد فرصا لها في دول عربية وغير عربية، وما لم تتجه الحكومة المصرية نحو زيادة المكاسب المعنوية لتوطين هذه العمالة من السهل أن تصبح الدولة ملفوظة منها.

لذلك، العبرة ليست بكم ونوع المشروعات التنموية التي تنتشر في طول مصر وعرضها، لكنها بما يمكن أن تقدمه من حلول لواحدة من الأزمات الهيكلية التي تعاني منها البلاد، والتي تحتاج إلى توعية بأهمية البقاء في الداخل وتقديم عوامل جذب ملموسة وتوضيح الخطورة التي ينطوي عليها السفر إلى الخارج في ظل انسداد الأفق في الكثير من الدول العربية.

يكمن المخرج في مدى التناسق بين الخطاب الدعائي المستخدم في الترويج لبعض المشروعات وبين الواقع الذي يقول إن نسبة البطالة في مصر مرتفعة، ما يشي بأن هناك فقدان ثقة وعدم استعداد للتجاوب مع الخطاب المتفائل بشأن التنمية والعمالة.

يستوجب الأمر تضييق المسافة بين الجانبين من خلال الانتباه لبناء الإنسان المصري، وإعادة تأهيله بطريقة تتناسب مع المعطيات الحقيقية لما يعيشه من تحديات، ومهما تنامت وانتشرت وتوسعت التنمية وبقي التفكير التقليدي حاكما لذهن قطاع عريض من المواطنين سوف تظل الإغراءات المقدمة لاستيعاب العمالة محدودة التأثير.

9