إسهام الفكر العربي الحديث في التأسيس للفكر المتطرف

خضع التاريخ الإسلامي القديم لجملة من القراءات الأيديولوجية والسياسية التي عملت على إعادة دراسة الوقائع وتكييفها، وفقا للميول الأيديولوجية في كل مرحلة من مراحل التاريخ العربي الحديث، حتى بات ذلك التقليد في قراءة التاريخ شائعا كما لو كان مؤسسا على منهجية علمية تعتمد الحياد وتتّخذ مسافة من الأحداث، بينما الواقع يشير إلى العكس من ذلك تماما.
وإذا كان جميع الباحثين اليوم يجمعون على أن الحركات الدينية المتطرفة التي تملأ المشهد في الوقت الحاضر تعود بجذورها إلى حركة الخوارج الأولى، من حيث اعتماد نفس الأسس الفكرية والفقهية في التعامل مع المسلمين والخروج على الحاكم وتكفير الآخرين والتشدد في التعامل مع النص، فإننا نجد أن مسؤولية الفكر العربي الحديث في التأسيس لهذا الفكر مسؤولية واضحة، لا يمكن لأيّ باحث منصف إنكارها، وبشكل خاص مسؤولية الفكر اليساري العربي إبان الستينات والسبعينات، عندما كانت الفكرة الاشتراكية ذات جاذبية، دفعت العديد من المفكرين والأكاديميين العرب إلى إعادة قراءة أجزاء من التاريخ الإسلامي القديم قراءة غلّبت الانتصار لهذه الفكرة، وأرغمت هذا التاريخ على أن يقول ما لم يكن في جوفه، وكان ذلك بمثابة تحريف للحقائق التاريخية من باب الحماس الأيديولوجي.
أسقط اليسار العربي ذاتيته على الماضي التاريخي الإسلامي، رغبة منه في توطين نفسه داخل المناخ الثقافي العربي
يمكننا القول ـ من دون مجانبة للصواب ـ إن الفكر اليساري العربي هو أول من أعاد بعث الفكرة الخارجية في الضمير العربي الحديث، وإن كان ذلك من الجانب السياسي لا من الجانب العقدي.
لم ينظر اليسار العربي إلى حركة الخوارج ـ كما هو الحال اليوم ـ بوصفها خروجا عن الشرعية والإجماع، وعنوانا للانحراف التاريخي الذي حصل في الإسلام، فحوّله من إسلام الأمة إلى إسلام الجماعة أو الطائفة، بل نظر إليها بوصفها حركة “ثورية”، نجحت في رفع لواء العصيان في وجه السلطة العربية، ونجحت في إحداث شرخ في الدولة، وتجرأت على المساس بـ”دين السلطة”، واستطاعت ـ وهي أقلية صغيرة ـ أن تدفع الدولة إلى التعامل معها كحركة فاعلة ذات مقومات بين أفرادها.
أسقط اليسار العربي ذاتيته على الماضي التاريخي الإسلامي، رغبة منه في توطين نفسه داخل المناخ الثقافي العربي ـ الذي يشكل الدين صلبه ـ والإيحاء بأنه ليس نشازا في هذا المناخ، بل هو نوع من الاستمرار لحركات قديمة كانت ذات توجهات “اشتراكية” أو “شيوعية”. ذلك أن التأكيد على أهمية حركة الخوارج في التاريخ الإسلامي القديم، كان يستبطن نوعا من التلميح إلى الأحزاب الاشتراكية بوصفها تمثل الطليعة في التغيير والثورة، بمثل ما كانت تلك الحركة الصغيرة المعزولة تمثل لديه “طليعة” الرفض السياسي للدولة والإجماع المحيط بها.
بيد أن التحولات التي حصلت في ما بعد، داخل الفكر الإسلامي المعاصر، وأنتجت تيارات متطرفة تقاتل الناس وفق المبادئ التي تأسست عليها حركة الخوارج الأولى، أظهرت خطأ تلك القراءات المبتسرة التي أنجزها الفكر اليساري العربي الحديث، كما أظهرت أن هذا الأخير أخفق في قراءة التاريخ الإسلامي القديم، عندما فشل في التقاط التحولات الجوهرية، وفصل ما بين السياسي والاعتقادي في الفكر الخارجي.