إسرائيل الدينية وإسرائيل العلمانية
يطيب لإسرائيل تعريف نفسها على أنها دولة يهودية وعلمانية (وديمقراطية طبعا) في الوقت ذاته. ولما كانت اليهودية دينا، كغيرها من الأديان السماوية، فإن الصهيونية العلمانية تتعامل مع اليهودية باعتبارها دلالة على هوية قومية، بمعنى أنها “تُقَوْمن” الدين، وتدين “القومية”؛ على الرغم من أن القومية هي مصطلح حديث وعلماني، وأيضا على الرغم من اختلاف وتباين الثقافات والقوميات التي يتحدّر منها اليهود، وعلى الضد من التعريفات والمكونات المعروفة للجماعة القومية.
في هذا الإطار، أي في إطار “علمنة” اليهودية، أو “قومنتها”، نشأ التناقض بين الإسرائيليين العلمانيين والمتدينين، في المجتمع الإسرائيلي وفي ثقافته، ورموزه، ووعيه بهويته، إلى درجة أن العديد من علماء الاجتماع الإسرائيليين باتوا يتحدثون عن مجتمعين وشعبين، أحدهما علماني وآخر متدين. يقول أوري افنيري “يعيش هنا شعبان، لا يفصل بينهما فقط اللباس وطريقة الحديث، وإنما كل شيء تقريبا: الإحساس بالانتماء، منظومة القيم، والخلفية الاجتماعية، يجب الاعتراف بحقيقة وجود شعبين هنا، وإيجاد نظام يسمح لهما بالعيش جنبا إلى جنب”.
ويمكن ملاحظة استمرار التوتر بين جمهور المتدينين وجمهور العلمانيين في المجتمع الإسرائيلي، في وجود أحزاب دينية خالصة (شاس ويهوديت هاتوراه)، وأحزاب علمانية خالصة (ميريتس – إسرائيل بيتنا). وفي السجالات المستمرة حول الالتزام بعطلة يوم السبت، ومنح امتيازات للمدارس الدينية، وتقليص خدمة طلابها بالجيش، وحول مسائل التشريع (بين التشريعات الدينية والمدنية)، كما حول العديد من تفاصيل الحياة اليومية، وفي الرموز والثقافة والمأكل والملبس.
وتبدو أكثر مظاهر التوتر هذه في العلاقة الوثيقة بين المتدينين والمستوطنين المتطرفين، حيث يحاول بعض الحاخامات التحريض على الدولة وعلى الجيش، على رفض أوامر الإخلاء (على ندرتها) من بعض البؤر الاستيطانية، حتى لو وصل الأمر حد الاشتباك مع الجنود وتوجيه الإهانات لهم. ويحاول هؤلاء تصوير هذه الأوامر باعتبارها مرحلة على طريق فك الارتباط بالمشروع الصهيوني و بـ“أرض الميعاد”.
رغم ما تقدم يمكن القول إن إسرائيل دولة حديثة بعلومها وتكنولوجيتها ومؤسساتها وإداراتها، ووسائل الاستهلاك فيها، ونظامها السياسي، وبالخصوص بأسلحتها، ولكنها مع ذلك فهي دولة مازالت تعيش في غياهب التاريخ، وفي أساطير الماضي، وإلا ما معنى حديث علمانيي إسرائيل، وبعض مثقفيهم الحداثيين، عن “أرض الميعاد”، ووحدة “أرض إسرائيل”، و“أرض الآباء والأجداد”، و“هيكل سليمان”، و“يهودية الدولة”؟ ألا يعني ذلك أن إسرائيل، التي تدّعي العقلانية والحداثة، تغوص عميقا في الخرافة، وتبرر ذاتها بالأساطير العتيقة، وبميثولوجيات دينية؟ ثم ألا يعني ذلك أن إسرائيل التي تدّعي محاربة الأصولية الإسلامية، تقوم بترسيخ أصوليتها الدينية، على مختلف الصعد؟
ويحاول جدعون ليفي توصيف هذا الانفصام (العلماني الديني)، بالتالي: “إسرائيل باتت أكثر قربا إلى طهران من ستوكهولم. من الولادة إلى الوفاة، ومن الختان إلى الجنازة، ومن إقامة الدولة إلى إقامة آخر بؤرة استيطانية في الضفة.. يبدأ الأمر من مجرد وجودنا هنا..على حجج لاهوتية. فأبونا إبراهيم كان هنا ولهذا نحن هنا.. لا يوجد زواج وطلاق مدنيان، ولا تكاد توجد جنائز مدنية. كذلك قانون العودة وتعريف من هو اليهودي، والأوامر الأساسية.. كلها تعتمد على الشريعة.. ثم هنالك عدم وجود حافلات وقطارات في يوم السبت.. ويقرر “حكماء التوراة” على اختلافهم في قضايا سياسية مصيرية.. علّلَ أكثر الإسرائيليين استمرار الاحتلال في القدس الشرقية بالاعتقادات الدينية.. هلمّ نعترف بأننا نعيش في دولة ذات شعارات دينية؛ هلم نسقط القناع العلماني المتكلف الذي وضعناه على وجوهنا.. ليست إسرائيل كما تعتقدون، وليست ما نحاول أن نظهره لأنفسنا وللعالم”.
مشكلة الصهيونية العلمانية، المترددة في خوض معركة فصل الدين عن الدولة، أن ذلك الأمر يمكن أن يهدد روايتها، ويقوض شرعيتها، وينزع عن إسرائيل مبرر وجودها، وهذا هو مأزق اليسار الإسرائيلي أيضا.
وتتفرع عن ذلك مشكلة أخرى تتعلق بعملية التسوية حيث أن الجمهور المتزمّت دينيا يعاند هذه العملية كونها ستتمخّض عن التخلي عن الضفة (أي عن “يهودا” و“السامرة”)، التي هي بنظره “أرض الميعاد”، ما يفسر التوتر في علاقة هذا الجمهور مع التسوية، وهو ما يعبّر عنه بالتمسك بالاستيطان ورفض الانصياع لأوامر الإخلاء (على ندرتها).
التناقضات التي تعيشها إسرائيل، وتتردد في حسمها، تحث بها نحو التطبيع مع محيطها، ليس بالمعنى الدارج، وإنما بمعنى التحول إلى دولة شرقية، وقديمة مثلنا، أي دولة تعيش على سياسات الهوية والأساطير الدينية وجبروت القوة، خارج نسق الحداثة والتاريخ الجديد، أي خارج نسق القانون وحقوق الإنسان وعولمة القيم.
وهذا ما يحذر منه شاحر ايلان بقوله “من الناحية الاقتصادية والأمنية، يتحمل المجتمع الإسرائيلي على كاهله عبء الحريديم (المتدينين). كان هذا صعبا.. في الثمانينات.. لكن لم يعد محتملا الآن.. من شأن هذا الواقع أن يهدم المجتمع والاقتصاد الإسرائيليين بعد عشرين سنة، ويحوّل إسرائيل إلى دولة عالم ثالث.. وأن يفضي إلى تقسيم الدولة أو إلى حرب أهلية. حدث هذا لدى آخرين، وقد يحدث عندنا.. الحل لا أن يكف الحريديم عن أن يكونوا متدينين متزمتين.. بل أن يبدأوا العمل والخدمة في الجيش، وأن يندمجوا في المجتمع العام”.
هكذا، فإن إسرائيل هذه التي تعاند ذاتها بين الدين والعلمانية، وبين الأسطورة والحداثة، والماضي والمستقبل، هي ذاتها إسرائيل التي تعاند عملية التسوية والاعتراف بالآخر الفلسطيني. المفارقة، أيضا، أن ثمة ما هو إيجابي في هذا الأمر، إذ كون إسرائيل باتت مكشوفة، كدولة دينية وأصولية (في مبررات قيامها وفي سياساتها والكثير من تشريعاتها). وعليه، يبدو أن العالم، الذي يحث الخطى نحو الحداثة والعلمانية والعقلانية، وفصل الدين عن الدولة، والذي لم يعد يتسامح مع أخطار الأصوليات الدينية (لا سيما الإسلامية)، سئم الأصولية اليهودية، وتعب منها، وبات غير قادر على التسامح معها، أو تحمل كلفتها.
كاتب سياسي فلسطيني