إرهاب القاعدة في اليمن يتجاوز الاغتيالات والتفجيرات
عقب أنباءٍ متواترةٍ ـ عن وصول لجنةٍ دوليةٍ للتحقيق في عملية استهداف وزارة الدفاع اليمنية، ظهر تسجيلٌ للقيادي في “تنظيم القاعدة” قاسم الريمي يعترف فيه عن مسؤولية التنظيم عن العمليّة. المُلفت للنظر في هذا الاعتراف أنه جاء بعد مُدةٍ زمنيةٍ طويلةٍ من يوم وقوع الحادثة خصوصاً إذا ما قارناه ـ زمنياً ـ بالاعترافات التي تُذاع مباشرةً بعد كل عمليّةٍ يتبناها التنظيم، وفي العادة، تكون الاعترافات مُعدّة سلفاً، وغالباً ما يتلوها المُنفذ بنفسه، مع بيان أسبابه ودوافعه. تحدث الريمي، في اعترافه، عن أن الاستهداف تم عن طريق الخطأ فالمكان والضحايا لم يكونا مقصودين من العملية البتة، مُعبراً، في الوقت نفسه، عن أسفه وتعازيه، وفوق ذلك، استعداد التنظيم لدفع الديات لجميع أسر الضحايا.
أما قوله بأن عمليةً على هذا المستوى من التخطيط والدقّة؛ وبما جعلها تخترق أكثر القلاع مِنعة وحصانةً (وزارة الدفاع)، كانت قد أخطأت أهدافها، فهذا قولٌ يَصعُب على المرءِ تصديقه، وأمرٌ لا تؤكدّه الشواهد في تسجيلات كاميرات مراقبة المبنى التي بثتها اللجنةُ الأمنيةُ المُكلفةُ بالتحقيقِ بعد يومٍ واحدٍ من الحادثة.
اليوم يعود الريمي إلى صدارةِ المشهد مرةً أخرى والريمي أحد الفارين من سجن الأمن السياسي في صنعاء العام 2006 في عمليّة أثارت ضجة عالميّة، وطرحت الكثير من علامات الاستفهام. ولكن هذه المرة بصورةٍ مختلفةٍ، وأكثر إنسانيةٍ، وهو ما دفعنا إلى التشكيك أكثر في قوله ودوره أيضاً. إن القول بأن تنظيمَ القاعدةِ كان وحده ـ يقفُ وراءَ هذه العمليّةِ، تخطيطاً وتدبيراً وتنفيذا، هو قولٌ يسايره الشكُ، ولفرضيات عدّةٍ:
أولاً: في هذه الحادثةِ، كانت الغالبيةُ العُظمى من الضحايا: أطباء، ممرضين، مرضى، زوار، وقِلةٍ قليلةً كانوا عساكر. وعمليّة استهداف المدنيين لم تَكُن بالخطأ أو ناتجةٍ عن سوءٍ في التقديرِ، كما قال الريمي، بل كانت عمليةٌ مقصودةٌ لذاتها، كما بيّنت التسجيلات.
ثانياً: لا يمكن الحديثُ عن تنظيمٍ للقاعدةِ خالصٍ ونقيًّ، سواءٌ على المستوى المحلي أم على المستوى الدولي. فالتنظيم الذي يعتمد على العالم الافتراضي (الإنترنت) كمصدرِ رئيسيٍّ للتجنيدِ، وللتأهيلِ، ولوضعِ الخططِ والبرامجِ، ولتعين القادةِ والأمراءِ، بات أكثر هشاشةً أمام عملياتِ الاختراق (المخابراتيّة).
ثالثاً: تأتي أقوى الأدلّةِ المُرجِحةِ لتورطِ تنظيمِ القاعدةِ من أسلوب التنفيذ ذاته، أي الأسلوب الانتحاريّ الذي بات ماركة محتكرة باسم هذا التنظيم.
ولكن الواضح من خلال تسجيل الكاميرات، أن العملية تمت بأسلوبين أو نمطين، الأول هو السيارةُ المُفخخةُ، وهو أسلوبٌ قاعديٌّ (انتحاري) بامتياز. أما الأسلوبُ الثاني، عندما تسلل بضعُ أفرادٍ إلى داخل بنايةِ المستشفى في مجمع الوزارة وشرعوا بقتل كل من يُصادفونه، وبطريقةٍ مُرعبةٍ وصادمةٍ، لا يحملُ ـ هذا الأسلوبُ ـ أي بصماتٍ القاعدة، خصوصاً وأنه لم يتضحْ بعد ما إذا كان هؤلاء مُقبلين على عمليّة انتحاريّة؛ باعتبارهم مقتولين مقتولين، أما كانت لديهم أهدافٌ أخرى جرت الحيلولةِ دون تحقيقها.
إذا كانت هذه الفرضيات قد قادتنا إلى التشكيك في مصداقية الاعترافات للقيادي في القاعدة، وهو رجلٌ مشكوكٍ في دوره وتحركاته، كما أسلفنا في بداية حديثنا، فإن الأمر المؤكد من خلال التدقيق في المشاهد وقائمة الضحايا هو وجود تمييزٍ واضحٍ لدى “المُخطِط” في هذه العمليّةِ بين “المُسْتَهدَف” و”الرِّسالة”، بحيث كان ينبغي على الرسائل أن تغدو أكثر أهميةً من المُستهدَفين أنفسهم.
المقولةُ اليمنيةُ التي تتنبأ بحصول كارثةٍ في خاتمة مطاف أي حوارٍ يمني، لا تلقي باللوم على الحوار بحد ذاته، بقدر ما تومئ باحترازٍ إلى الواقع المزرى لبلدٍ تبدو فيه كل فرصةٍ للتغير أو أية محاولاتٍ لتغيير قواعد اللعبة، محفوفةً بمخاطرٍ كبيرةٍ، ومُحاصرةً بجميعِ المصائبِ، ويبدو أن هذا الأمر قد بات تقليداً عتيقاً يبسط سطوته على التاريخ كله.
و بعد قيام الوحدة بين دولة الجنوب ودولة الشمال. كانت دولة الجنوب تحمل إمكانات تحديثية وتمدينية واعدة، ولديها خبرات مؤسسيّة طويلة.
ولكن لأن العرف المتأصل كان أقوى من كل الأماني، لم يمض سوى وقتٍ قصيرٍ حتى بدأت سلسلةِ مُنظمة من الاغتيالات السياسية تُطال الكوادر الجنوبيةِ، من الصف الأول والثاني، وباسم “الجماعات الجهادية”.
وفي غضون ثلاثة أعوام فقط تم اغتيال ما يُقارب 160 كادراً جنوبياً، ومِن لم يُقتل، تم استهدافه بكثيرٍ من الوسائل، بلغ ذروته، استهداف بيوت بعض القيادات الكبيرة بقذائف آر بي جي. وتحت ضغط هذا الوضع، انسحب الجنوبيون إلى مدينة عدن، عاصمة دولة الجنوب قبل الوحدة، ولم يوافقوا على العودة إلى صنعاء إلا بعدما تدخلت الجامعة العربية والمجتمع الدولي، فأشرفا على توقيع اتفاقية سمّيت بـ “اتفاقيّة العَهد والاتفاق” في العاصمة الأردنية عمّان، ولأن الحرب في صنعاء أصدق الأنباء من “الصحفِ”، أُعلِنت الحرب على الجنوب بعد ثلاثة أشهرٍ فقط من توقيع الاتفاقيةِ، وكانت الجماعات الجهاديّة المُتهمة بتنفيذ الاغتيالات ضد الجنوبيين خلال الفترة الانتقاليّة في طليعة مقاتلي “جيش الشرعيّة”، كما جرت تسميته، والذي تم بواسطته اجتياح الجنوب، ومن ثم القضاء على كل إمكاناته وقدراته.
لقد جرت العادة في صنعاء على أن القوى التقليدية هي من تقوم بوضع قواعد اللعبة، وهي التي تضع الأعراف وتوزع المهام والرُتب. ولأن العرف هو قانونٌ، بطريقةٍ ما، فهو يُعبر، كما يشير ميشيل فوكو، عن القوة المادية السياسية للعاهل: إنه لا ينزع فقط إلى الحماية، بل أيضاً إلى الانتقام من التطاول على سلطانه عن طريق معاقبةِ الذين يتجاوزن محظوراته. وفي تنفيذ العقوبة، تسود القوى الناشطة للانتقام لتعيد إقرار السيادة بعد جرحها، إنها تعيدها بأن تظهرها في كامل أبهتها وألقها.
ألا يكون استهداف وزارة الدفاع، القلعة التي يُفترض أن تكون أكثر مِنعةً وحصانةً في أي بلدٍ، وهي التي تعمل، ومنذ فترة، على مهمة إعادة هيكلة الجيش لضمان بناء جيش حديث، وبتلك الطريقة السافرة، هو إعلانٌ بارزٌ وقاس، في الوقت نفسه، إعلانٌ يُريد أن يقول شيئاً ما؛ شيئاً لن تجد له أية إجابةٍ مقنعةٍ في صنعاء المشطورة؟!