إبراهيم منيمنة زعيم سني جديد يعد بالتغيير أم بإعادة التدوير؟

بيروت – هيمنت على لبنان منذ تأسيسه ككيان شبه مستقل قيادات سياسية لم تبارح مكانها القديم، كزعامات عشائرية وإقطاعية وطائفية، وفي الوقت الذي كان هذا البلد الذي فاخر مواطنوه بكونه “سويسرا الشرق” يتقدم على مستوى الاقتصاد والحريات والإعلام والثقافة، بقيت السياسة في صيغتها البدائية.
تلك الصيغة قادت إلى الحرب، ثم فككت المجتمع طائفياً، قبل أن يعاد تركيبه بـ”اتفاق الطائف” الذي يناقض كون لبنان بلدا متقدما، ويكرّس المحاصصة والديمقراطية التوافقية الطائفية. ولم يكن لهذا سوى أن ينتج المزيد من الهيمنة لأطراف لم تخرج ولم تخن تلك المعادلة لكنها وظفتها لصالح اللاعب الإيراني بدلاً من غيره.
وحين انهارت المؤسسات وفقدت الميثاقية قدرتها على المداومة، وتفاقم المشروع الإيراني في لبنان ولم يعد محصوراً بحدوده، بل مدّ أيديه نحو سوريا واليمن وأخذ يضرب في العمق العربي الداعم للبنان واللبنانيين على مر التاريخ، كان لا بدّ من تغيير جذري في معنى وكيفية التصدي لذلك المشروع، من داخل المسلمين السنة أنفسهم، فالحريرية وصلت على ما يبدو إلى طريق مسدودة.
أحد أبرز وجوه ذلك التغيير المهندس المعماري إبراهيم منيمنة الذي حاول الوصول إلى الندوة البرلمانية في الدورات الانتخابية السابقة وفشل، لكنه هذه المرة نجح في حصد النسبة الأكبر من الأصوات ليتحول إلى زعيم سني جديد قادم من معادلة مختلفة، فلا عشيرة تدعمه ولا دولة ذات ثقل ولا إمكانات مالية ولا نبرة طائفية.
الوعي بالدور
حتى منيمنة بدا غير مصدّق أنه تصدّر بالفعل القوائم الانتخابية في دائرة بيروت الثانية، ولم يجد أكثر جدارة من العاصمة بيروت ليهديها فوزه، مع من يقول عنهم إنهم “كل الناس المحبطين والفاقدين للأمل بلبنان ولكل من هاجر من لبنان وبقي قلبه معلقاً به، وللذين ساهموا بالتغيير ولأهلنا في بيروت الذين شعروا بأنهم متروكون”.
القوى التي يسميها منيمنة “تغييرية” هي التي ينسب إليها الفضل في حمله إلى المجلس النيابي، لأنها انتبهت إلى خطابه الذي يرى أن بيروت لكل اللبنانيين ويؤمن أنها ستبقى مدينة التنوع والإشعاع الفكري، لتستعيد دورها على الصعيدين الاقتصادي والإنمائي على مستوى المنطقة.
أهل بيروت أدركوا أخيراً ما هي المهمة الملقاة على عاتقهم، فقاموا، وفقاً لمنيمنة، بعمل جبّار وقف بوجه مصادرة قرارهم حين أعطوا ثقتهم للمعارضة. دور مثل هذا لا ينشأ بين يوم وليلة، بل يتراكم بالعمل المجتمعي والتنويري في القاعدة الشعبية. ولهذا ينتقل منيمنة على الفور إلى خانة العمل بعد حيازة الموقع السياسي المكتسب. يقول “نحن نعي هذه المسؤولية ونُصرّ على متابعة عملنا بالقيام بإصلاحاتٍ سياسية اقتصادية وغيرها”. ويرد لبيروت جميلها بوعد يلزم نفسه به “لن نترك قلب بيروت مشلولاً، لن تبقى مدينة أشباح”.
في العام 2016 بدأ التغيير، وما كان له أن يحقّق أي إنجاز لو لم يلتقط الرئيس سعد الحريري الإشارة، ويفهم أخيراً أن وجوده، في الشروط التي كانت سائدة، يشكل ثقلاً معيقاً معرقلاً، لا عاملاً مساعداً على استعادة دور السنة في لبنان.
الحريرية التي بنت بيروت بعد سنوات الحرب، تم القضاء عليها باغتيال رفيق الحريري، وبمحاولة هضم وابتلاع وريثه سعد بعد ذلك، ورغم الرصيد الكبير الذي يتمتع به في الشارع السني اللبناني، إلا أن هناك فاعلين كثرا بقوا محجمين عن النزول إلى الميدان وظل الناخبون مترددين حيالهم، طالما أن الحريري وظله العالي يطغيان على المشهد.
هكذا كان قرار الحريري الابتعاد لإفساح المجال لذلك التغيير كي يتحقق، وهو لم يتأخر في إعلان صوابية قراره مع ظهور أولى نتائج الانتخابات حين غرد على حسابه على تويتر قائلاً “انتهت الانتخابات ولبنان أمام منعطف جديد. الانتصار الحقيقي لدخول دم جديد إلى الحياة السياسية. قرارنا بالانسحاب كان صائباً. هزّ هياكل الخلل السياسي، وهو لا يعني التخلي عن مسؤولياتنا. سنبقى حيث نحن نحمل حلم رفيق الحريري ونفتح قلوبنا وبيوتنا للناس”.
وصفة "الخطاب غير الطائفي" نجحت بعد أن عرف أصحابها أن إيران تراهن على انحطاط الخطاب السني، واستجابته لاستفزازات أرادت استخراج عوامل تفكيك المجتمعات سواء في العراق أو سوريا أو لبنان أو اليمن
من هنا جاء منيمنة، من الفراغ الذي خشي حلفاء الحريري أن ينشأ بانسحابه، لكنهم اليوم أمام قيادات جديدة عليهم أن يحسنوا التعامل معها. حتى هو اعترف بذلك بالقول “إن عزوف الحريري أدى إلى فراغ سياسي والخيار كان باتجاه اختيار أشخاص جدد وخيارات جديدة”.
ويرى قراء تطورات الساحة اللبنانية أن الصراعات التي يشهدها الشارع السنّي على تركة “المستقبل” أسهمت في تسليط الضوء على خطاب منيمنة حول السيادة والقضايا الاجتماعية والاقتصادية والعدالة والخطاب المدني غير الطائفي.
في هذا المفصل “الخطاب غير الطائفي”، نجحت الوصفة التي عرف أصحابها أن إيران وأذرعها في المنطقة وفي مقدمتها حزب الله تراهن على انحطاط الخطاب السني، واستجابته لاستفزازات الخطاب الإيراني الذي أراد استخراج عوامل تفكيك المجتمعات سواء في العراق أو سوريا أو لبنان أو اليمن، وهو ما بدأ يتغير من بيروت.
أين صبّ ذلك التأثير؟ في أوساط الشباب لا غيرها، وهي الأكثر قدرة على صناعة التغيير، حين لا تكتفي بالساحات والشعارات والمظاهرات، بل حتى من خلال صناديق الاقتراع. والتفاعل الحيوي الذي أظهره الشباب خلق حالة غير مسبوقة، البعض يربطها بالثورة المدنية في بيروت قبل سنوات قليلة.
رئيس حكومة الغد
يملك منيمنة شركة “أربين ديزاين إنترفينشنز” منذ عام 2009، ويصنف ضمن الشخصيات العربية التي توصلت إلى حلول تصميم شاملة لمجموعة متنوعة من المشاريع في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، علاوة على تقديمه لدراسات عديدة تصبّ في تداخلات التصميم الحضري البسيطة في بيروت.
ومن خلال عمله برز منيمنة في مجال التنظيم المدني الذي لا يبتعد كثيراً عن تخصصه كرئيس لفريق التخطيط والتصميم الحضري، وهو يتمتع بشهرة عالمية من خلال إدارته لشركة خطيب وعلمي، وتدريسه في جامعة سيدة اللويزة ودوره كشريك في دار الهندسة.
ويرى من صوتوا لمنيمنة أنه سيكون الأكثر كفاءة لتولي منصب رئيس الحكومة، بينما يقول منيمنة “أنا من ضمن كتلة نيابية تغييرية وليس هدفنا المراكز، سنكون أقلية معارضة إنما دورنا سيكون كبيرا في ظل حجم التمثيل وفي ظل استعادة قرار لبنان المسلوب من الخارج”.
غالباً كان الخارج هو من يتوافق على المناصب السيادية في الداخل اللبناني، وهو ما يريد منيمنة التمرّد عليه والخلاص النهائي منه، وقد لا يكون هناك من سبيل لتحقيق ذلك سوى بما يوضحه بالقول “هدفنا إعادة تفعيل دور المؤسسات وإيجاد حلول لمشكلة التوظيف وتأمين فرص العمل”.
الأخطر في الصورة الجديدة هو ما يتسرّب من أن نتائج الانتخابات الأخيرة هي عقوبة أراد حزب الله ومن خلفه إيران إنزالها بالنظام السوري وحلفائه في لبنان، بسبب تقاربه المستجد مع دول عربية
منيمنة المحاضر السابق في الجامعة الأميركية ببيروت، يرتكز إلى خبرة تعود إلى أكثر من 19 عاماً في الهندسة المدنية والتصميم الحضري. وكان أحد أبرز مؤسسي حملة “كلنا بيروت” عام 2018، كما شارك في تأسيس حملة “بيروت مدينتي” في عام 2016 وكان رئيساً لها.
غير أن عقدة رئيس الحكومة اللبنانية لا تقتصر على بيروت ولا على السنة وحدهم، وبفعل سنوات الحريري المتعثرة، بات هذا الموقع أكثر ضعفاً مما كان عليه، يتحكم به حزب الله من جهة، وميشال عون في موقعه كرئيس للجمهورية معطل لرؤية رئيس الحكومة.
عون وتياره الوطني الحر ورئيسه جبران باسيل خرجوا أقل قوة من الانتخابات، ومعهم حزب الله الجريح الذي لن يترك مهمة رئيس الحكومة القادم هانئة سلسة، هذا إن كان ذلك الرئيس القادم سيتقدم إلى المرحلة القادمة مسالماً تصالحياً كما كان وضع الحريري، لكن منيمنة ليس كذلك.
يقول الرجل عن سلاح حزب الله “موقفنا واضح منه ومكانه بيد الشرعية، وانطلاقاً من مقاربتنا الوطنية لهذا الملف لا يمكن لمجموعة أحادية أن تصادر هذا القرار، كما أن هذا الملف له ارتباطات إقليمية”.
هذا وحده كفيل بفتح حرب مع الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله الذي لا يعترف بأنه خسر الأغلبية النيابية. وحتى مع نبرة منيمنة التي ترفض المواجهة الحادة، فإن نصرالله سيعمل بنفسه على ما يشبه الانتقام من هزيمته.
يقول منيمنة “لا نريد لمستوى المواجهة أن يتحول إلى التجاذب الإقليمي ولا أن يصل إلى مستوى الشحن الطائفي، نحن نعي جيداً أن أبعاد السلاح إقليمية وستكون معالجته كذلك، وإصرارنا ليكون هذا السلاح ضمن سياسة دفاعية وفي إطار دستوري شرعي”. دون أن يفسّر كيف يمكن للدستور أن يتغلب على مئة ألف مقاتل مدججين بالسلاح الخفيف والثقيل والترسانة الصاروخية يتفاخر بهم نصرالله.
التعليق التخويني للنائب محمد رعد رد عليه منيمنة بوضوح حين قال “لا أفهم كلام النائب رعد، ومقاربتنا لموضوع السلاح غير الشرعي هي من منطلق وطني”.
من يعاقب من؟
التحالف مع زعيم القوات اللبنانية سمير جعجع الذي حصد الغالبية في أصوات المسيحيين والذي توعد بعدم انتخاب نبيه بري رئيساً لمجلس النواب مجدداً، إضافة إلى التنسيق مع القوى التقليدية التي نجحت، وقبل ذلك وبعده سيكون على منيمنة مواجهة الواقع المعيشي للمواطنين الذين وضعوا ثقتهم به، ناخبون أدلوا بأصواتهم كما لو كانوا رهائن للنظام القائم، وليس أدل عل ذلك من احتجاز ودائعهم المصرفية وعدم تمكينهم من سحبها. يعد منيمنة أن تلك الودائع ستعود إلى أصحابها ويضيف “نحن نريد التأكيد على حمايتها قانونيا، وعلى المصارف أن تتحمل مسؤوليتها بالدرجة الأولى، وستكون أولويتنا المصارف، وستكون هناك خطط وهي بحاجة إلى المزيد من الوقت”، والوقت هو مشكلة اللبنانيين المزمنة، وهو الذي كسر ظهر الحريري من قبل، فلم يعطه أحدٌ وقتاً ليفي بوعوده.
غير أن الأخطر في الصورة الجديدة هو ما يتسرّب من أن نتائج الانتخابات الأخيرة هي عقوبة أراد حزب الله ومن خلفه إيران إنزالها بالنظام السوري وحلفائه في لبنان، بسبب تقاربه المستجد مع دول عربية، على اعتبار أن مصالحه مستقرة لأسباب فوق سياسية، يضمنها الوضع الإقليمي وقوة السلاح، وفي مناخ كهذا على منيمنة أن يتلمس طريقه نحو قيادة السنة ولكن بتركة ثقيلة لا يعرف أحد كيف سيتمكن من حملها.