إبراهيم عبدالمجيد.. حكّاء مصري يضيء الدروب للموهوبين

أديب هجر السياسة وتفرغ لمؤانسة الناس وسرد غرائبهم.
الخميس 2022/02/17
حكاء الدهشة

روى لي أصدقاء كثر كيف صدمهم كبرياء وتيه المبدعين الذين أحبوهم من حروفهم ولما التقوهم فوجئوا بصلفهم وغطرستهم فملأهم الإحباط. من هؤلاء مثلا شاعر معاصر من أعمدة قصيدة النثر قال إنه كان يتمدد مضجعا على حصيرته وهو صبي يافع في صحن دار أهله بقريته الذين يتحلقون حول التلفزيون في بدايات الثمانينات وكان يهب منتفضا عندما يظهر كاتب أو مبدع شهير في أحد البرامج التلفزيونية احتراما لهذا المبدع الذي يحبه، وحين شب الصبي وصار شاعرا معروفا وشاءت له الأقدار أن يقترب من هؤلاء المبدعين صدمته نقائصهم وشعر بسذاجته لأن الصورة التي اتضحت أمامه هي أن الكثير من المبدعين أشرار وبعض صُناع الجمال قُبحاء إنسانيا.

قليلون من أفلتوا بجمال إنساني يوازي جمال إنتاجهم الأدبي، ومن أبرز هؤلاء الروائي المصري إبراهيم عبدالمجيد، حكاء الدهشة، والكاتب العابر للأجيال، والمثقف الموسوعي الذي ينحاز دوما للحرية والتسامح والعدالة، ولا ينشغل بصراعات البيئة الثقافية ولا يأبه إلا بالسحر الفني والجمال والصفاء.

مثقف عابر للأجيال

يبدو الروائي المصري المنتمي إلى جيل الستينات حيث التحولات والصدمات الكبرى والأحلام والطموحات والانكسارات نموذجا فريدا لالتقاء الجمال الإنساني بالإبداعي لدرجة تجعل منه صديقا لكافة الأعمار من القراء، ومحل اهتمام واحترام جميع أطياف المجتمع السياسي في دول عربية عديدة.

ليس أدل على ذلك من اتساع الاحتفاء بالرجل والدعاء له على صفحات التواصل الاجتماعي عندما ألمت به وعكة صحية مؤخرا، ولم يكن غريبا أن يُقر الروائي الكبير أنه تعافى بفضل دعوات وصلوات محبيه. هكذا بدت شعبية عبدالمجيد لافتة ومثيرة للإعجاب ومتجاوزة لكونه من أبرز مبدعي جيله في فن الرواية.

إن جمال الحكايات وسحر الشخوص المدهشين وغرائبية الأحداث وتمدد الفلسفة بين ثنايا عالم عبدالمجيد تجعل منه كاتبا جذابا، قادرا على الارتقاء بالقراء فوق سماوات المتعة ويتميز أيضا بصفات إنسانية نادرة.

صحيح أن الرجل لديه من الإنتاج الأدبي ما يضعه في خانة الغزارة، فله 21 رواية وست مجموعات قصصية وثلاثة عشر كتابا نقديا وفكريا، وصحيح أن له مقالات في كثير من الصحف والمواقع، لكن حضوره الإنساني يُميزه كثيرا عن أقرانه، فهو مندمج مع تيارات المبدعين من مختلف الأجيال ومُعبر عن ضمير المثقف الواعي الرافض للإرهاب والتعصب والمقاوم للقمع، وهو صاحب مواقف دعم ومساندة لحملة الأقلام وللحريات.

ربما لا ينسى أحد في الوسط الثقافي في مصر أول لقاء عقده الرئيس عبدالفتاح السيسي مع المثقفين والمبدعين في مارس 2016، وشارك فيه عبدالمجيد، وكان له موقف إنساني عظيم.

ففي هذا اللقاء تحدث الكثير من المثقفين عن قضايا تخص الثقافة وحدها، لكن عبدالمجيد ركز على الحرية وطالب بالافراج عن شاب صغير السن تم القبض عليه بشكل عشوائي لأنه عبر عن رأيه في كتابة عبارة على ملابسه برفض التعذيب، وهو ما استجاب له الرئيس وأمر باطلاق سراحه.

§ روايات عبدالمجيد وقصصه رسمت تعلقا شديدا بالتاريخ وتحولات الناس

في مناسبات عدة كان بمثابة حائط الصد لأهل الإبداع والفن في قضايا استهدافهم بالتحريض أو التكفير أو التخوين معبرا عن انتصار دائم للحرية والانحياز لضمير الإنسان وسعيه نحو العدالة، وردد كثيرا أن “الكتابة ليست معصية لله، فهو الذي منحنا الموهبة حتي لو كسرنا التابوهات لأنها من صنع البشر”.

رغم وجود مؤسسات وكيانات مسؤولة ولو شكليا عن المبدعين والكتاب في مصر، فقد كان عبدالمجيد معاونا ومساعدا لتوفير العلاج للمرضى منهم والمتعرضين لأزمات صحية أو اجتماعية، ما بدا مسألة غير معتادة داخل الوسط الثقافي.

الأجمل من ذلك أن الرجل مكتشف للمواهب ومستوعب جيد لنماذج الكتابة الجميلة ومتابع رائع للإبداعات المدهشة للأجيال الجديدة، وهو لا يستنكف أن يكتب عن كاتب آخر لا يعرفه أحد، في قرية نائية أو حي عشوائي في مصر، أو مدينة عربية بعيدة إيمانا منه بأن قيمة المبدع تُحتم عليه الإشارة إلى الجمال عند غيره.

من هنا لم يكن غريبا أن يظهر، قبل مرضه الأخير، في معظم حفلات التوقيع التي يعقدها المبدعون الشباب، ويطل متباسطا ومتواضعا ومتحاورا مع الجميع في هدوء وابتسام. لفت أنظار الناس لأن للقارئ أسماء غير معروفة فكان مُضيئا لدروب الكثير من الكُتاب في جيل الوسط وجيل الشباب على السواء.

لم يكن غريبا أن أحدثه قبل أيام لأسأله إن كان بوسعي أن أرسل إليه كتابي الأحدث “ضد التاريخ” الذي يتناول قراءة مغايرة لبعض وقائع تاريخ مصر المعاصر، ففاجأني بأنه أحضره يوم صدوره وقرأه كاملا وأنه يتفق معي في كذا ويختلف في كذا.

كان أول من لفت الأنظار إلى كتابات محمود الغيطاني في النقد السينمائي وكثيرا ما شجعه واحتفى به، وأنا على ثقة أن نصف جيلي من المبدعين المتحققين مدينون للرجل بكلمات تشجيع ونصائح صادقة ومساندة إنسانية خالية من أي مصالح شخصية.

بين الفن والسياسة

§ عبدالمجيد الذي ينتمي إلى جيل الستينات حيث التحولات والأحلام والانكسارات يبدو نموذجا فريدا لالتقاء الجمال الإنساني بالإبداعي

ولد في مدينة الإسكندرية المطلة على البحر المتوسط عام 1944 ودرس الفلسفة، وعمل في وظائف إدارية في قصور الثقافة قبل أن يبدأ مشروعه الإبداعي متزامنا مع عمله السياسي السري.

غير أنه في لحظة تفكير عميق وبعد مشاركته في الانتفاضة المعروفة بانتفاضة الخبز في مصر عام 1977 احتجاجا على قيام الرئيس الراحل أنور السادات برفع أسعار بعض السلع الأساسية قرر التركيز على الفن والإبداع فقط، وتحدث مع الأديب عباس الأسواني في ذلك فوافقه وقال له إن أي إنسان يستطيع توزيع منشورات وتنظيم مظاهرة والدعوة إلى اعتصامات، لكن ليس كل إنسان مبدع، والفن هو الأبقى.

حقق عبر رحلة إبداع طويلة قاربت ستين عاما مجدا ولمعانا خالدا استحقه عن جدارة، ففاز بجوائز عديدة ربما أهمها جائزة الشيخ زايد للكتاب، وجائزة ساويرس في الرواية، وجائزة كتارا في الرواية أيضا، فضلا عن جائزة نجيب محفوظ، وجائزة الدولة المصرية في الآداب، وترجمت معظم أعماله إلى اللغات الإنجليزية والإيطالية والفرنسية والألمانية.

رسمت روايات عبدالمجيد وقصصه تعلقا شديدا بالتاريخ وتحولات الناس فجاء معظمها معبرا عن رؤى فلسفية عميقة تحاور الإنسان وتستكشف إضاءاته وجوانب سعيه نحو الحضارة والتقدم.

تمثل رواية “لا أحد ينام في الإسكندرية” لوحة فنية شديدة الثراء معبرة عن مجتمع متعدد الثقافات (كوزموبوليتاني) يتسع للجميع ويعبر عن التسامح والتعايش السلمي ويزخر بغرائب الأفكار والتصورات والثقافات الإنسانية، ومثلها إبداعاته الأخرى التي تصوّر سحر السواحل وقسوة الغربة، كما في روايتي “طيور العنبر” و”البلدة الأخرى”.

نراه تائها سائحا مصطدما بالزحام في روايته “هنا القاهرة” ثم نستقرئ حزنه وألمه لفراق رفيقة عمره في رواية “أداجيو”، ونتابع مشكلات العصر وأزمات الجينات في رواية “العابرة”، ونجده في روايته الماتعة “في كل أسبوع يوم جمعة” مستخدما عنصر التكنولوجيا الرقمية في الكتابة ربما للمرة الأولى عن أحداث تدور عبر العالم الافتراضي من خلال مجموعة يتم اصطياد زوارها في جرائم غريبة شديدة القسوة.

عاشق الفلسفة

في روايته الأحدث “الهروب إلى الذاكرة” يكتب مشاهد من سيرته الذاتية، وعن شخوص يعرفهم وحكايات غرائبية يرى أن الاستفادة منها في العمل الفني أمر ضروري بدلا من انطفائها في حكايات المجالس فقط.

§ لوحة فنية شديدة الثراء معبرة عن مجتمع متعدد الثقافات

لذا يقول عبدالمجيد لـ”العرب” إن حياة أي روائي “تندمج مع النص في كثير من الأحيان لتعود شخصيات عديدة للحياة بعد رحيلها لتخلد إلى الأبد”. فالكثير من شخوص هذا المبدع المخضرم تتسلل خفية إلى أدمغتنا لتسكن في تنعم دون أدنى تعب لأنها من لحم ودم ونبض ومشاعر نعرفها ونتخيلها.

دراسته للفلسفة كان لها تأثير قوي في زرع بذور الإبداع لدى الكاتب، يقول “لقد أحببت في الفلسفة شخصيات تتحدث بالمنطق لتجد تبريرا لكل ما هو غير منطقي. مبكرا جدا أحببت زينون الإيلي وبراهينه على عدم وجود الحركة ولا الزمان ولا المكان. أحببت السفسطائيين الذين جعلوا كل أمر نسبي ولا حقيقة نهائية. أحببت الوجودية. أحببت مسرح العبث وقرأت كثيرا منه وشاهدت بعض المسرحيات حين تُرجمت وعُرضت في مصر حين كان لدينا مسرح في الستينات والسبعينات”.

ويضيف “أمارس حياتي بفعل العادة ما دمت ولدت فيجب أن أعيش. تركت النهار لحياتي العادية والليل لي مع الموسيقي الكلاسيكية التي تحملني الآن وأنا أكتب بعيدا عن كل شيء”.

في كتبه غير الروائية يبدو السحر هو السمة المشتركة بين جميع مقالاته، فهو يكتب مثلما يحكي حكاياته ليسري الشغف بين السطور وترتسم المشاهد أمام القارئ. يضع حكايات غير مكتملة في بداية المقال ويدخل في طرح آخر لتسير معه حتى النهاية لتجد تتمة حكايته ليسحب معه القراء بذكاء شديد.

من كتبه الحديثة الصادرة هذا العام كتاب “استراحة بين الكتب” ويتضمن قراءات لكتب وروايات حازت ثقته وإعجابه، كما صدر له عمل فكري عميق يحمل عنوان “رسائل إلى لا أحد” حاول فيه تقديم نقد لكثير من أوضاع المجتمع وظواهره. وله كتاب لطيف بعنوان “ما وراء الحكايات” قدم فيه تجربة فريدة لحكايات وكواليس وخلفيات كل عمل من أعماله الروائية الذائعة.

من مأثوراته التي يحرص الشباب على تداولها في ما بينهم قوله “لأن في الدنيا نساء، فقد تكفي قبلة واحدة لتلتهمك المتاهة وقبلة ثانية لتغادر البلاد، وتكفي ضحكة عالية لتتغير حياتك تماما”، والتي وردت في روايته “الهروب من الذاكرة”. ومنها أيضا “إن الوقوف على عتبات البهجة أفضل من البهجة ذاتها” التي جاءت في روايته “عتبات البهجة”. ومن العبارات اللافتة قوله “قلوب العاشقين لها عيون ترى ما لا يراه الناظرون” وجاءت في سياق روايته الشهيرة “لا أحد ينام في الإسكندرية”.

§ عبدالمجيد في مناسبات عدة كان بمثابة حائط الصد لأهل الإبداع والفن في قضايا استهدافهم بالتحريض أو التكفير أو التخوين

 

12