أيديولوجيات دينية وهوياتية

الاثنين 2016/06/20

أضحت الأفكار السياسية الكبرى بفضل الأحزاب المتخشبة، وغياب الديمقراطية، وخبو الحياة الثقافية، بمثابة أيديولوجيات مغلقة لا صلة لها بالواقع، بل إنها صارت بمثابة “أديان” أخرى، أي أنها فقدت عقلانيتها وقيمتها، وتاليا فاعليتها وحيويتها، وباتت أفكارا ساذجة لا قضية لها، ولا روح فيها.

وكما شهدنا في السنوات السابقة، أي سنوات “الربيع العربي”، فإن فكرة اليسار، مثلا، باتت عند بعض “اليساريين”، بمثابة غطاء لتبرير التسلط وتدجين الناس وسلبهم حريتهم، باعتبارهم مجرّد مكوّنات طبقية صمّاء، لا ذوات لها، في يسار اختزلت أطروحاته عن العدالة الاجتماعية بمقاومة الرأسمالية العالمية والإمبريالية والصهيونية، أي في المجالات التي ليس له أي تأثير فيها.

يشمل ذلك فكرة العلمانية عند بعض “العلمانيين”، من الذين جردوها من جوهرها المتعلق بحرية العقل والرأي والتعبير، وضمن ذلك ضمان حرية التديّن، مع التمييز بين الديني والدنيوي، وبين الدين كمجال خاص والدولة كمجال عام. كما ينطبق ذلك على القومية عند الذين ابتذلوا هذه الفكرة وجعلوها محصورة بالتعصّب ونبذ الآخر والاستعلاء القومي والعنصرية، بما في ذلك تنميط الناس من دون احتساب لخصائصهم وفرادتهم. أما المقاومة، التي فكّت الارتباط بين معنى التحرير ومعنى الحرية، فقد تحوّلت إلى مجرّد مجال للتورية والتلاعب والاستهلاك، كما تمثّل ذلك في ما يسمى معسكر “الممانعة والمقاومة”.

وأخيرا فإن هذا يشمل بعض التيارات الإسلامية، التي باتت، بدورها تدّعي احتكار الحقيقة، وحق تفسير الإسلام على هواها، مع محاولاتها فرض ذلك بوسائل العنف على المجتمع، مشهرة تهمة الجاهلية، وسيف التكفير في وجه من يقف في مواجهتها، حتى لو كان ينتمي إلى تيارات إسلامية أخرى.

وإجمالا، فقـد آلـت هذه الأفكـار إلى تخليق جماعات من متعصّبين، يجملون ويبررون الاستبداد والفساد ونهب البلاد، والحط من قيمة الشعب، علما أنها كلها تدّعي الكلام باسم الشعب، وتعتبر نفسها وصية عليه.

نجم عن هذا الوضع نشوء ظاهرة أخرى تتمثّل بالنزوع إلى تنميط أو تصنيف الناس، على أساس أيديولوجي، بحيث بتنا وكأننا أمام حـالة طائفية، و“هوياتية”، من نـوع آخر، كأن العلمانيين، أو الإسلاميين، أو القوميين، أو اليساريين، أو الليبراليين، من نسيج واحد، وهو أمر غير معقول، وغير عملي.

والأنكى أن هكذا تصنيفات “هوياتية”، تحيل تلك الجماعات إلى “طوائف” مغلقة ومتعصّبة، مثلها مثل الطوائف الدينية، التي هيمنت عليها فكرة الطائفية، بحيث يغدو الإسلامي في مواجهة العلماني واليساري والقومي، واليساري ضد الليبرالي والإسلامي والقومي، والقومي ضد الإسلامي واليساري والليبرالي، وهكذا.

علما أن الواقع يشتغل على نحو آخر، فثمة إسلاميون ويساريون وعلمانيون وقوميون وليبراليون في خندق أنظمة الطغيان، مثلا، كما في الحالة السورية، كما ثمة مثل هؤلاء ضمن ثورة السوريين.

أيضا، لا توجد تيارات خالصة، ومطلقة، لفكرة بعينها، إلا إذا كانت هذه التيارات في حالة موات، فالتيارات الحية تتعايش فيها جملة من الأفكار فثمة في التيار اليساري ليبراليون، وقوميون، أيضا. وثمة في التيار الإسلامي ليبراليون وقوميون، كما ثمة في التيار الليبرالي يساريون وإسلاميون، لأن الإنسان أصلا شخص متعدّد ومركّب وغني بتنويعاته.

لذلك ليس من المجدي نقد شخص ما أو محاباته، بدلالة التيار الذي ينزع إليه فقط، سواء كان يساريا أو اسلاميا أو قوميا أو علمانيا أو ليبراليا، بمعنى أن هذا أو ذاك، ينبغي أن يتأسّس على الموقف من قضايا الحرية والمساواة والكرامة والعدالة والمواطنة، فهذه القيم الجمعية هي التي تحدّد، لا الأيديولوجيات أو التنميطات الهوياتية المغلقة والجاهزة والمتمحورة حول ذاتها.

ولعل هذا الاختلال في تعاطي تيارات “اليسار” أو العلمانية أو الإسلامية أو القومية، مثلا، مع القيم المتعلقة بحرية الإنسان وكرامته، والتي تعلو على قيمة الأيديولوجيات، هو الذي أدى إلى عزلة بعض هذه التيارات في المجتمعات العربية، وتخبّط بعضها الآخر، أي أن الأمر لا يعود إلى أسباب لها علاقة بتخلّف الوعي السياسي لهذه المجتمعات فقط.

كاتب سياسي فلسطيني

9