أولويات المشهد السوري وتحدياته.. قليل من التأني في زمن الغموض

تستدعي مقاربة الحدث السوري بعناوينه ومشاهده الجديدة والمتقلبة القليل من التأني في قراءة مؤشرات المرحلة القادمة ما بعد سقوط بشار الأسد. وإن سلمنّا بأن سوريا وما حدث بها أعاد الكثيرين إلى سردية الربيع العربي وما حدث في ليبيا ومصر وغيرهما من الدول العربية، لكن تجارب تلك الدول ينبغي أن تكون مُحرضًا للكثيرين حيال أن الربيع قد تتغير معطياته وقراءاته ويتحول إلى شتاء يضع التحديات أمام التحولات السريعة. والمسألة ليست بالأمنيات أن هناك مسارًا مشرقًا ينتظر سوريا والسوريين، بقدر ما أن الحدث السوري والعناوين التي استحضرها بطرق مفاجئة ومدوية، تحكمه تساؤلات كثيرة وسيل من الهواجس. وهذه لا تقتصر على طبيعة ما حدث في سوريا فحسب، لكن ما بعد السقوط هناك انصباب على خيارات الحاضر وطموحات المستقبل، وهذا كفيل بنقل غالبية السوريين من مرحلة الخوف التي كانت سائدة في حُكم الأسد، إلى مرحلة القلق والترقب، ويُخشى في ذلك أن يبقى مؤطرًا لعناوين المستقبل القريب على الأقل.
بعد سقوط الأسد برزت تساؤلات جمّة لدى “العُقلاء من السوريين”. هي تساؤلات جيء بها عنوة جراء الحدث والسقوط، لتحكمها قائمة طويلة من الاستفسارات حيال خلفيات حُكام سوريا الجُدد وأهدافهم ومشاريعهم وخططهم في ما يتعلق بالكثير من المسائل المُلحة. والأمر لا يُمكن أن يستدعي التفاؤل إن اتخذنا من تصريحات إدارة العمليات سياقًا مستقبليًا، خاصة أن تلك التصريحات لا تتعدى ضرورة المرحلة الحالية لتمكين أسس الحُكم. في حين أن الواقع يفرض تحديات على الحُكام الجُدد لا بد من الإسراع في ضبط ما تفرزه بعض المناطق في سوريا من تصفيات وحوادث فردية، وهذا مدعاة إلى الرصد والمتابعة والتأني أيضًا طالما أن الغموض لا يزال هو الحاكم الفعلي لسقوط الأسد وما بعده، وكذلك لحُكام سوريا الجُدد وتوجهاتهم الحقيقية.
يُروى أن أديب الشيشكلي وبعد انقلابه وإمساكه بزمام الأمور في دمشق دعا ضباطه للعشاء في بيته. وبعد العشاء سأله أحدهم ما خطته للعمل بعد أن تولى السلطة، فأجابه الشيشكلي “أوف والله هاي ما فكرت فيها.” ما قاله الشيشكلي حقيقةً تتماهى جُملة وتفصيلاً مع واقع الحال الجديد في سوريا، خاصة أن غالبية الانقلابات والثورات وليس تعميمًا قد يكون تفكير قادتها لا يتعدى الوصول إلى السلطة وربما الاستئثار بها طويلاً. والخشية أن يكون الحدث السوري في وضع شبيه بما سبق، لكن لا يمكن إنكار أن سوريا تحكمها تعقيدات بسبب الإرث الكبير الذي تركه نظام الأسد الشمولي، ومنطلقات بعثية أحكمت سيطرتها على مدى عقود وأوغلت في المؤسسات وحتى في نفوس السوريين.
◄ ارتدادات سقوط النظام ستخلق بلا ريب خارطة جديدة من التحالفات والاصطفافات بمستوياتها الإقليمية والدولية وهذا ينسحب أيضًا على مستوى العلاقات بين الدول ومنظورها للواقع السوري الجديد
وحريّ بنا كسوريين وحريّ أيضًا بالحُكام الجُدد أن نضع الوقائع في نصابها الصحيح، والبحث عن وسيلة تُعيد الحياة في سوريا إلى سياقها الطبيعي والمنطقي، بعد أن قام الأسد (الأب والابن) وبعثه بأدلجة المجتمع السوري وتغيير قوانين الدولة بما يخدم هذه الأدلجة. وبهذا لم يعد المجتمع السوري طبيعيًا خاصة أن آل الأسد والبعثيين طوّروا السياسات والاقتصاد والإعلام ومؤسسات الجيش والأمن وحتى التعليم والصحة وفق منطلقاتهم النظرية الخاصة. نتيجة لذلك فإن ستين عامًا من الأدلجة وتطبيق السياسات التي تخدم نظام البعث وتحكم السوريين بقوانين خاصة؛ كل هذا خلق لدى غالبية السوريين تصورات خاصة ونظرات محدودة تجاه الدولة والمجتمع، لكن السوريين باتوا في واقع مغاير للسنوات الستين التي مضت، وبصرف النظر عن الحُكام الجُدد وانتماءاتهم الدينية أو توجّهاتهم السياسية فإن السوريين مطالبون بتطوير أنماط تفكيرهم وسلوكهم وتعاملهم مع بعضهم البعض.
في القراءات المنطقية للحدث السوري هناك بالتوافق أن تاريخ سوريا الحديث بدأ بعد سقوط النظام في عشرة أيام. هي عشرة أيام أعقبت عقودًا من حُكم آل الأسد وبعثهم، لكن الأيام العشرة كانت كفيلة ببروز التحديات والألغام السياسية والاجتماعية والتي يُخشى انفجارها مع الخطوات التالية. كما أن ارتدادات سقوط النظام ستخلق بلا ريب خارطة جديدة من التحالفات والاصطفافات بمستوياتها الإقليمية والدولية، وهذا ينسحب أيضًا على مستوى العلاقات بين الدول ومنظورها للواقع السوري الجديد، خاصة أن هناك دولا خرجت قسرًا من سوريا، وتحاول استغلال سرعة الحدث وفجائيته وأن تُطل مجددًا برأسها والعبث بألغام الانتقال إلى سوريا الجديدة. وهذا يفرض تحديًا على السوريين بمختلف انتماءاتهم وطوائفهم لتعزيز فرص الانتقال إلى مرحلة الاستقرار السياسي، وإبطال أيّ مفاعيل قد تُعرقل مآلات الحدث في سوريا.
في العمق فإن السوريين اليوم مطالبون ببناء توافقات وطنية ووضع تصورات حقيقية للانتقال إلى سوريا الجديدة، خاصة أن الواقع الجديد تحكمه أهداف وقواعد قد تتجاوز الشأن السوري. ومن المغالطات التي يمكن أن تؤدي إلى تعقيد المشهد السوري، تجاهل أن بعض الحُكام الجُدد في سوريا ينحدرون من انتماءات ومرجعيات قد تتصادم مع غالبية السوريين. فالقادمون إلى سوريا لديهم تجارب خاصة قد لا تتفق والمزاج العام في سوريا، ومن المهم القول إن تجاهل هذه التجارب أو إسقاطها من المشهد السوري عنوةً، ستكون له عواقب وخيمة قد تُعيدنا إلى زمن فوضى البعث وإقصاءاته للكثيرين. فسوريا لا تُحكم عبر طائفة أو مذهب، وهذه الحقيقة الوحيدة التي يجب أن ينطلق منها السوريون كافة.
ثمة حالة تُهيمن على السوريين وتحكم توجهاتهم. هي حالة يمكن وصفها بانعدام اليقين رغم مظاهر الفرح وامتلاء الساحات احتفالًا بسقوط الأسد، خاصة أن سوريا اليوم لا تواجه تحديات التغيير فحسب، بل ثمة جهات داخلية وخارجية تتربص بالسوريين وترى في حالة اللااستقرار مصلحة عليا لها. بهذا المعنى فإنه من الضروري إنجاز دستور سوري جامع لكل السوريين بمكوّناتهم وكياناتهم، والقول إن هناك قاعدة شعبية كبيرة تحتفي بالنظام الجديد، وثمة إقرار إقليمي ودولي بالحُكام الجُدد قد لا يتسق وما يريده السوريون عمومًا. إذ أن ما يهم هو الانتقال السياسي والحد من ارتدادات سقوط الأسد، وبناء سوريا يريدها السوريون تناسب تطلعاتهم، لا سوريا على مقاس دول إقليمية أو دولية!