أولاف شولتز خليفة ميركل الذي لا يزال حبيس الاحتمالات

عتاة السياسة الأوروبية لا يزالون ينظرون إلى شولتز على أنه ليس الشخص المناسب للمهمة الكبيرة التي تنتظره، فقد وصفه برلسكوني بـ"السياسي المتواضع".
الخميس 2021/11/18
زعيم "مُمل" ينجو من كل الفضائح

برلين - رغم ظهور نائب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى جوارها في جميع اللقاءات السياسية التي أجرتها مؤخرا، إلا أن مستقبل الخليفة المحتمل لميركل ووزير المال في الحكومة الألمانية أولاف شولتز زعيم الحزب الفائز في الانتخابات الأخيرة لا يزال معلقا على احتمالات وحسابات لم تحسم بعد.

تم تسويق شولتز بالفعل، كما تقول الصحافة الألمانية لكونه الأنسب لتولي مهام ميركل من بعدها، ولكنها مهمة تبقى ذات شقين لا يقل أي منهما صعوبة عن الآخر؛ الأول الوصول إلى المنصب، والثاني ملء الفراغ الكبير الذي سيخلفه غياب “والدة الأمّة” والزعيمة التي أعطت ثقلا للاتحاد الأوروبي في أحلك الظروف، خلال السنوات الطويلة التي حكمت فيها.

تحديات شولتز لا تقتصر على ذلك، فبداية من ملامحه التي تثير سخرية الألمان، بسبب ما اعتبروه تصنّعا للجدية، بعد أريحية ميركل، ووصولا إلى وجهه الذي يكشف ارتباك القادم الجديد بخطب منضبطة أكسبته لقب “شولتزومات” المشتق من الآلة الأوتوماتيكية الذي يجعله، كما يقول الألمان، “الأكثر تسببا بالملل حول العالم”.

ألمانيا العجوز

 "نيويورك تايمز" تلمح إلى أن تجربة الألمان السابقة مع سياسي كاريزمي لم تنته بشكل جيد، في إشارة إلى هتلرِ
 "نيويورك تايمز" تلمح إلى أن تجربة الألمان السابقة مع سياسي كاريزمي لم تنته بشكل جيد، في إشارة إلى هتلرِ

غير أن شولتز يتقن لعبة أخرى لا يدركها من يسخرون منه، فهو البارع في العيش داخل شخصية “خليفة ميركل” بجدارة، بحيث تمكن من إزاحة أي منافس آخر صارعه على ذلك. وهو يكتفي بهذا القدر من المجد في هذه الأيام بانتظار أن يحقق عهده إنجازات تنسب إليه آنذاك لا إلى خلافته للمرأة القوية.

كان شولتز مجرد رئيس بلدية في هامبورغ، إلا أنه تمكن من الصعود في سباق السياسة بهدوء، متبعا استراتيجية قوة الضعيف، بعيدا عن الضجيج، وبالبناء على خواصر منافسيه السياسيين الرخوة.

لا تزال الأرقام في ألمانيا تشير إلى تفوق كبار السن على الشباب من حيث الحضور في المجتمع، وبالتالي في صناديق الاقتراع، وبوسطيته تمكن شولتز من جرّ هؤلاء، الذين تجاوزا الستين من العمر، لصالحه، فهو واحد منهم بسنوات عمره الـ63.

ولد شولتز في أوسنابروك في 14 يونيو 1958 وانضم إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي في سن الـ17. درس القانون وأصبح محاميا متخصصا في قانون العمل وانتخب نائبا في العام 1998. وإثر نجاح حزبه في حصد غالبية الأصوات في الانتخابات التشريعية، لم يكتف شولتز بما حققه، بل وجّه دعوة لحلفاء ميركل من المحافظين بالانضمام إلى تياره، قائلا إن “الحزب المسيحي الديمقراطي والاتحاد الاجتماعي المسيحي لم يخسرا أصواتا فحسب، بل تلقيا رسالة من المواطنين مفادها أنه لا ينبغي أن يكونا في الحكومة بل المعارضة”، مشيرا إلى أن الناخبين أعربوا عن خياراتهم بوضوح وقالوا كلمتهم بشأن من يجب أن يشكل الحكومة المقبلة من خلال تعزيز ثلاثة أحزاب: الاشتراكيين الديمقراطيين والخضر والليبراليين.

وصل إلى منصب وزير المال خلفا لفولفغانغ شويبله المسيحي الديمقراطي، ما أعطى لحزبه، الاشتراكي الديمقراطي، دفعة يعتبرها كثيرون “انتعاشا” من نوع خاص، سهّل له التقدم في السباق الانتخابي لم يكن يتوقعه أحد. رغم ما أشيع من أن هذا الحزب كان في حالة احتضار، إلا أن وسطية شولتز جعلته يخسر الكثير داخل حزبه بادئ الأمر، لكنّ أمرا ما أعاده إلى الواجهة من جديد، ولم يكن هذا العامل الغامض سوى وباء كورونا.

لا نعطي إلا ما لدينا

حضور شولتز يثير سخرية الألمان، بسبب ما اعتبروه تصنّعا للجدية في خطبه التي أكسبته لقب {شولتزومات}
حضور شولتز يثير سخرية الألمان، بسبب ما اعتبروه تصنّعا للجدية في خطبه التي أكسبته لقب "شولتزومات"

هذا هو مبدأ شولتز السياسي الذي يبدو أنه من خلال هذه الكلمات إنما يحاول الظهور بمظهر الجاد والقاسي في تطبيق استراتيجيته، مع أن هذا أيضا يسبب له المزيد من النقد، بسبب كونه فاقدا للرحمة، كما يوصف، وليس لديه شعور بالأبوة لأنه لم يرزق بأطفال، مع أنه حاول إبداء تعاطفه مع أطفال هامبورغ التي تمكّن من زيادة ميزانيتها خلال سبع سنين بنسبة كبيرة.

هذا السخاء لم يواصل شولتز التمسك به في طريقه إلى منصب المستشار، فهو  يعارض الإعفاء من الضريبة على الثروات الكبيرة التي وعد بها المحافظون مقابل زيادة الحد الأدنى للأجور ويقول إن “كل هذا مكلف، لكن عدم القيام بأي شيء كان سيكون أكثر كلفة”.

أوصله طموحه إلى منصب الأمين العام لحزبه، لكنه تخلى عنه، ومع ذلك فقد كلّف في العام 2007 بحقيبة وزارة العمل. وكانت تلك السنوات سنوات عاصفة، قرّبته من ميركل أكثر مما كان يتوقع شخصيا.

لكن عتاة في السياسة الأوروبية لا يزالون ينظرون إلى شولتز على أنه ليس الشخص المناسب للمهمة الكبيرة التي تنتظره، فقد وصفه رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق سيلفيو برلسكوني، بـ”السياسي المتواضعي، على حد قوله. وأوضح برلسكوني في حوار أجرته معه صحيفة “لا ستامبا” أن “شولتز يريد تشكيل الحكومة الجديدة، في حين أنه في الواقع لم يفز أحدٌ في ألمانيا. لكني أعرف السيد شولتز جيدا، وأؤكد لكم أنه سياسي متواضع، متواضع جدا. يطمح إلى منصب المستشارية لا يصلح لقيادة دولة عظيمة مثل ألمانيا، بعد 16 عاما من حكم ميركل”.

شولتز يعترف بأن ميركل لديها سجل حكومي ناجح، وهو يشير دوما إلى أن المستشارة القوية التي عمل معها خلال الأعوام الماضية تعرف أن السياسة تتطلب المثابرة والقتال بقوة

يقول شولتز في تصريح لـ”ديرشبيغل” إن خططه ترمي لإنشاء حكومة مستقرة في ألمانيا، وإنه ينوي تحقيق المساواة في المجتمع الألماني، وأن يلعب الاحترام دورا مهما في حياة الألمان.

فالألمان وفقا لشولتز، يريدون بداية جديدة وحكومة تقدمية، وهم من جعل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الحزب الأكثر قوة. ويضيف “إنهم يريدونني أن أكون المستشار المقبل”.

يحاول أن يظهر بمظهر من يعرف العقلية الألمانية أكثر من غيره، ولذلك يردد باستمرار أن الألمان يعرفون أنه، وخلافا لما كان قبل بضعة عقود، توجد بضع دول تمتلك القدرات الصناعية المشابهة لما لدينا، وهذا يخلق شعورا بعدم اليقين، ولهذا السبب بالذات أصبحت الأحزاب اليمينية الشعبوية في تصاعد مستمر في المجتمعات الغنية.

ومع أنه ينتقد صعود الشعبوية، إلا أنه يحذّر من تفكك المجتمع الألماني في استدرار لتعاطف المجتمع، ويقول “الاحترام يشكل هاجسا بالنسبة إليّ. كيف نمنع المجتمع من التفكك، كيف يمكن الاعتراف بكل إنجاز مهني، وكل إنجاز حياتي بصورة متساوية؟ واجبنا في الدول الغنية هو العثور على جواب لكل هذه الأسئلة”.

الأحزاب التقدمية ملتزمة بالارتقاء في المجتمع، كما يقول شولتز، وهي تضمن أن الأطفال من العائلات الفقيرة يمكنهم الذهاب إلى الجامعات، ولكنهم يعرفون أن الشخص المهني والبائع في المتجر، وعامل توصيل الطرود، والممرضة التي ترعى المسنين “يقومون بأعمال تتسم بالأهمية ذاتها التي يتميز بها عمل شخص آخر مثلي درس القانون ومارس مهنة القانون”، والكلام لشولتز.

أما عن ميركل، فيعترف بأنها تمتلك سجلا حكوميا ناجحا، مشيرا إلى أن المستشارة القوية تعرف أنه يجب المثابرة في السياسة، وأنه يجب عليك القتال بقوة وصلابة من أجل أشياء تعتبر مهمة بالنسبة إليك، ففي دولة فيدرالية مثل ألمانيا، وفي أوروبا وفي العالم أجمع عليك التنسيق والتوافق مع كثيرين.

فضائح ووعود

Thumbnail

يرتبط شولتز ببعض ما سميت بالفضائح المالية التي تم الكشف عنها بعد أن قامت الشرطة الألمانية بمداهمة وزارة المال بحثا عن وثائق تتعلق بتبييض أموال قال المدعي العام إن الوزارة لم تمرّرها للسلطات التنفيذية للتحرك بناء عليها.

القصة تعود إلى “فضيحة وايركارد” التي تعدّ أكبر فضيحة مالية في ألمانيا منذ الحرب العالمية الثانية، وهي التي قرّر البوندستاغ الألماني فتح تحقيق رسمي بشأنها مؤخرا، وكذلك بشن شولتز الذي يعتبر الوزير المسؤول عن الرقابة المالية،

وبعد أن طُرح السؤال عن السبب الذي دفعه إلى عدم الكشف عن عمليات الاحتيال في شركة “وايركارد”، وربما التستّر عليها، لكن رد شولتز جاء متجاهلا للأمر واعتبره غير ذي تأثير عليه.

وكانت شركة “وايركارد” التي تؤمّن الخدمات المالية قد أعلنت إفلاسها في العام 2019 بعد أن اتضح أن هناك قرابة ملياري يورو من أموال المودعين “مفقودة”، إلا أن فضيحة كبرى مثل هذه لم تدفع شولتز إلى الاستقالة من منصبه.

شبكة العلاقات القوية التي نسجها شولتر مع زعماء أوروبيين ستساعده في مهمته، فقد كان المرشح الأول الذي استقبله الرئيس الفرنسي ماكرون في قصر الإليزيه، لكن عتاة السياسة الأوروبية ما يزالون ينظرون إليه على أنه ليس الشخص المناسب للمهمة الكبيرة التي تنتظره

وقبل ذلك وحين كان عمدة لهامبورغ وجّهت إليه اتهامات بالتستّر على فضيحة “كام إكس” المتعلقة بالاحتيال الضريبي. وفي تلك القضية اجتمع شولتز بمدير المصرف كريستيان أولياريوس ثلاث مرات في عامي 2016 و2017 عندما كان يخضع للتحقيق بالتهرب الضريبي. وبرّر شولتز ذلك بأنه “لا يتذكر ما الذي دار بينه وبين مدير المصرف خلال هذه الاجتماعات”، وحينها كان مبلغ 43 مليون يورو يعتبر من الأموال المفقودة. وأفلت شولتز من هذه الفضيحة أيضا.

أعلن شولتز أنه ماضٍ في التركيز على مشاريعه المستقبلية، كحل مشكلة السكن من خلال بناء الآلاف من الوحدات السكنية الجديدة، مستندا إلى نجاحه في إنشاء الآلاف من الوحدات السكنية في هامبورغ، التي لم تتسبب بإرهاق ميزانية المدينة، وكانت أسعارها مناسبة للمواطنين.

ومن بين وعوده رفع الحد الأدنى للأجور وزيادة الاستثمار العام في المشاريع الخضراء لمكافحة التغير المناخي.

ولا شك أن شبكة العلاقات القوية التي نسجها مع زعماء أوروبيين ودوليين ستساعده في مهمته، إن تحققت ويذكر هنا أن شولتز كان المرشح الأول الذي استقبله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قصر الإليزيه بباريس كنوع من الدعم الفرنسي له. الفرنسيون يعرفونه جيدا، فقد اشترك معهم خلال الفترة الماضية بالعمل على قوانين مالية تتصل بالضرائب التي يجب أن تُفرض على شركات التكنولوجيا العملاقة مثل غوغل وأبل ونظائرها.

مواصفات شولتز المعقدة تلك دفعت صحيفة “نيويورك تايمز” إلى القول إن “الألمان يفضّلون الساسة المملين، لأن التجربة الأخيرة مع سياسي كان يتمتع بالكاريزما لم تنتهِ بشكل جيد”، في إشارة غير ودية إلى الزعيم النازي أدولف هتلر.

12