أوكرانيا وشبح الهزيمة العسكرية

لم يكن أحد يتصور أن ينتهي الحال بأوكرانيا إلى الوضع الحالي، حيث غابت عن صدارة سلم الأولويات، ولم يعد مصيرها يشغل بال الدوائر السياسية الغربية، على الأقل كما كان الحال في بدايات الأزمة، وهذا ليس بالأمر المفاجئ، بل هو من طبائع الأمور، حيث تتبدل الأولويات وتتغير شواغل الرأي العام والدوائر السياسية وفقاً لتطورات الأحداث ومجرياتها، وكذا اتجاهات بوصلة الإعلام سريعة التململ والحركة والقفز بين الأحداث، وكان واضحاً في مشهد مؤتمر ميونيخ للأمن الذي عقد مؤخراً، غياب الأفق الإيجابي لأوكرانيا في حربها ضد روسيا، ومن ثم يبدو انحسار الأضواء عن هذه الحرب مفهوماً إلى حد كبير.
التطور الأبرز في حرب أوكرانيا خلال الآونة الأخيرة، يتمثل في انسحاب الجيش الأوكراني من مدينة أفدييفكا، وهي إحدى المدن الإستراتيجية الَمهمة في شرق أوكرانيا وقد استولت عليها القوات الروسية بالكامل، والأهم من خطوة الانسحاب أنه تم، وفقاً لتقارير إعلامية، بشكل عشوائي قبل يوم من الأمر الذي أصدره القائد العام للقوات الأوكرانية ألكسندر سيرسكي، بمغادرة المدينة، وهو ما ينطوي على مؤشرات سلبية بشأن وضعية الجيش الأوكراني ميدانياً.
◙ أوكرانيا تحولت إلى ملف للجدال بين الديمقراطيين والجمهوريين الأميركيين، وبات رهانها الأخير على الحصول على صواريخ ATACM-300 الأميركية بعيدة المدى، لمحاولة وقف الهجوم الروسي
الحاصل ميدانياً أيضاً أن الجيش الأوكراني يعاني منذ أشهر من نقص في الذخائر والعتاد، فضلاً عن تدهور الروح المعنوية للقوات، ما أدى إلى جمود الموقف ثم تدهوره لمصلحة الجيش الروسي، الذي انتقل من الدفاع عن الأراضي التي سيطر عليها إلى الهجوم في محاولة للاستحواذ على أراض أوكرانية جديدة أو استعادة ما سيطر الجيش الأوكراني عليه من قبل، ما يعني حدوث تحول في سير العمليات ميدانياً لمصلحة الجيش الروسي، وهو ما يفسر تصريحات المسؤولين الأوكرانيين بأن جيشهم يعاني ظروفاً ميدانية صعبة للغاية.
سياسياً، كانت هناك إشارة لافتة للغاية وردت على لسان وزير الخارجية الأوكراني ديمتري كوليبا وشدد فيها على أن السلطات الأوكرانية لا تنوي الاعتراف بالهزيمة والتنازل عن الأراضي التي تعتبرها تابعة لها باسم إحلال السلام في البلاد.
اللافت هنا هو طرح فكرة الاستسلام من الجانب الأوكراني، ولو في صيغة رفض لها واستنكار لها، فالمغزى هو صعوبة الأوضاع الميدانية بالنسبة إلى الجيش الأوكراني، وهو ما دفع الممثل الدائم الروسي لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا إلى التأكيد أمام مجلس الأمن الدولي على أن الحفاظ على أوكرانيا بشكل ما كدولة لا يزال ممكنا، ولكن لكي يتم ذلك يجب أن تصبح محايدة وتتوقف عن تشكيل تهديد لروسيا.
اللافت أيضاً أن وضع الجيش الأوكراني لم يعد يشغل الجانب الأميركي، بقدر ما يشغله البحث عن مخرج لحفظ ماء الوجه، أو “شماعة” لتبرير ما حدث في أوكرانيا، حيث بادر الرئيس جو بايدن للقول بأن سبب هزيمة القوات الأوكرانية الأخيرة في أفدييفكا هو تأخر الكونغرس حتى الآن في إعطاء موافقته على صفقة الأسلحة الكبيرة التي كانت إدارة بايدن قد تقدمت بها إليه لدعم قدرة القوات الأوكرانية على مواصلة القتال والدفاع عن مواقعها.
يركز البيت الأبيض إذاً على تبرئة ساحة الرئيس بايدن من الفشل الميداني في أوكرانيا، ويسعى إلى تحميل المسؤولية للجمهوريين، رغم أن دعم أوكرانيا استمر لنحو عامين ولم يشهد تباطؤا سوى في الأشهر الأخيرة، وتحديداً منذ اندلاع الحرب في قطاع غزة، لذلك تسعى إدارة الرئيس بايدن للتملص قدر الإمكان من المسؤولية عن الفشل المتوقع في أوكرانيا والدفع باتجاه استمرار القتال ولو في الإطار الدفاعي والحيلولة دون انهيار الجيش الأوكراني حتى انتهاء الانتخابات الرئاسية الأميركية لإدراكهم حجم التأثير الكارثي لهزيمة أوكرانيا على فرص الرئيس بايدن في صناديق الاقتراع.
◙ التطور الأبرز في حرب أوكرانيا خلال الآونة الأخيرة، يتمثل في انسحاب الجيش الأوكراني من مدينة أفدييفكا، وهي إحدى المدن الإستراتيجية الَمهمة في شرق أوكرانيا
الفشل العسكري في أوكرانيا قد تكون عواقبه مضاعفة بالنسبة إلى الرئيس بايدن في ظل سلسلة من الإخفاقات التي لاحقته طيلة ولايته الرئاسية ابتداء من الانسحاب المخزي للجيش الأميركي من أفغانستان، وانتهاء بالفشل في إدارة أزمة غزة، مروراً بالفشل في ملفات عدة أهمها أوكرانيا وإيران وردع ميليشيا الحوثي وانهيار النفوذ الأميركي في مناطق عدة من العالم ولاسيما في العراق الذي تعرضت فيه القوات الأميركية لضربات عدة متوالية.
تحولت أوكرانيا إلى ملف للجدال بين الديمقراطيين والجمهوريين الأميركيين، وبات رهانها الأخير على الحصول على صواريخ ATACM-300 الأميركية بعيدة المدى، لمحاولة وقف الهجوم الروسي ورفع معنويات الجيش الأوكراني، ولكن قرار البيت الأبيض بشأن إرسال هذه الصواريخ إلى أوكرانيا قد يكون المسمار الأخير في نعش فرص بايدن الانتخابية في نوفمبر المقبل، في ظل ردود الفعل الغاضبة من روسيا، لاسيما إذا استهدفت أوكرانيا أراضي في العمق الروسي بهذه الصواريخ، لذا فإن ما يريده بايدن الآن هو أن يواصل الجيش الأوكراني القتال ليس بغرض النصر أو حتى الدفاع عن الأرض التي يسيطر عليها، ولكن لدرء الاستسلام والانهيار الميداني، الذي يمثل إعلان هزيمة عسكرية سيدفع بايدن ثمنها حتماً.