أوكرانيا.. حرب الجميع ضد الجميع

أكثر ما يجسد حالة الحرب الروسية الراهنة ضد أوكرانيا وردود الأفعال الغربية المناوئة لها، وخاصة الأميركية والبريطانية، هي المقولة الشهيرة للفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز “حرب الجميع ضد الجميع” في إطار إشارته إلى “حالة الطبيعة” التي تنتفي فيها القوانين والقواعد والمبادئ الرادعة واللاجمة.
روسيا اجتاحت أوكرانيا لتحقيق مقاصد ظاهرية وكامنة يصب جُلها في توجيه ضربة استباقية موجعة ضد الأجندات والمصالح الأميركية في القارة العجوز، وما قد يستتبع ذلك من انكماش جزئي للنفوذ الأميركي وتوسع نسبي للنفوذ الروسي.
من الأهداف والمطالب الروسية المعلنة صدور تعهد رسمي من قبل حلف الناتو بعدم التوسع شرقا. كذلك، التجميد الدائم لتوسع البنية التحتية العسكرية الغربية في الدول التي كانت في السابق ضمن الاتحاد السوفييتي المنهار. بالإضافة إلى إنهاء المساعدات العسكرية الغربية لأوكرانيا وبقائها على الحياد وفرض حظر على الصواريخ متوسطة المدى في أوروبا الشرقية.
لكن الهدف الروسي الكامن هو توسيع أو إعادة إحياء منطقة النفوذ الروسي (السوفييتي) في سياق المساعي الدؤوبة للرئيس فلاديمير بوتين في استعادة الأمجاد البائدة للاتحاد السوفييتي السابق. إن عقيدة بوتين التوسعية، ومحاولة لملمة ما يمكن لملمته من الحطام المبعثر للاتحاد السوفييتي المنحل قد ترجمت على الأرض منذ 2008، عندما انتزعت روسيا أقاليم أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية من جورجيا واعترفت بهما مع دول صديقة لموسكو كدولتين مستقلتين. وتلا ذلك انتزاع شبه جزيرة القرم من أوكرانيا وضمها إلى روسيا سنة 2014.
العقوبات الأميركية المتتالية ضد روسيا والتي شملت أخيرا قطاع النفط والغاز وضعت الاتحاد الأوروبي، وخاصة ألمانيا وفرنسا، في موقف محرج لا يحسد عليه
ويعتبر التدخل العسكري الروسي في الحرب الأهلية السورية لإنقاذ نظام بشار الأسد والتدخل الرمزي في ليبيا خطوة على طريق استعادة الدور الروسي على المستوى العالمي. وجميع هذه الخطوات تندرج في عداد محاولة إعادة رسم واقتسام خارطة النفوذ الدولية بما يضمن لموسكو حصة أسوة بواشنطن. ويمكن اعتبار كل ذلك بمثابة إرهاصات أولية ربما تشي بعودة بطيئة للحرب الباردة أو ما يماثلها وبداية أفول نظام القطب الواحد وإعادة ظهور نظام القطبية الثنائية أو القطبية المتعددة أو ما يعادل ذلك.
نتيجة لذلك، بات التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا فرصة اقتنصتها موسكو لضرب النفوذ الأميركي والغربي. ولا غضاضة حتى لو تحقق ذلك على حساب أمن وأمان ومصير شعب ودولة حسب منطق الغاب السائد في العلاقات الدولية الذي ابتكره وجسده الأقوياء على مرّ التاريخ.
وقد تكون أوكرانيا أول الغيث الروسي الذي قد ينهمر لاحقا بغزارة ويتحول إلى طوفان يبتلع دول البلطيق أو بعض دول أوروبا الشرقية التي كانت تسبح في الفلك السوفييتي حتى نهاية القرن الماضي، والتي باتت تؤرق موسكو بعد انضمامها إلى حلف الناتو. وهذا ما يقلق واشنطن والغرب عموما، أي أن تكون أوكرانيا هي مجرد البداية لروسيا وليست النهاية، خاصة إذا تكللت الخطة البوتينية بالنجاح.
بالمقابل، منذ سقوط الاتحاد السوفييتي سنة 1991، لم يدخر الناتو بقيادة واشنطن، جهدا في التوسع شرقا وضم أغلبية الدول التي كانت جمهوريات ضمن الاتحاد السوفييتي السابق ودول المعسكر الاشتراكي إلى الحلف الغربي، الأمر الذي تعتبره موسكو تهديدا صارخا لأمنها القومي، وهو بالفعل كذلك.
خلال الأزمة الأوكرانية الحالية، تبنت الولايات المتحدة نهجا يرمي إلى توريط الأنداد والأصدقاء على حد سواء لتحقيق المزيد من الهيمنة بعد إشغال وإنهاك الآخرين. فالولايات المتحدة التي تقود الناتو كانت على دراية تامة بأن الغزو الروسي لأوكرانيا بات من المسلمات، لكن بالرغم من ذلك لم تبذل جهودا دبلوماسية تُذكر لتفادي سيناريو الحرب. لا بل على العكس من ذلك، قامت وتقوم مع بريطانيا بتأجيج وإدامة الصراع الدامي الذي يكتوي بناره الأوكرانيون وبآثاره الدول الرائدة في الاتحاد الأوروبي بدلا من التحرك في الاتجاه المعاكس وذلك بمعالجة المسببات وصولا إلى إيقاف الحرب وفق تسوية واقعية.
وبالتالي، عدم محاولة واشنطن نزع فتيل الأزمة قبيل الغزو الروسي لأوكرانيا، في وقت كانت تستطيع فيه فعل شيء ملموس في هذا الصدد، وذلك بالحوار البناء والجدي مع موسكو والاستماع إلى مطالبها وأخذ مخاوفها وتحفظاتها بعين الاعتبار، يعني بشكل أو بآخر أن واشنطن، واستنادا إلى حساباتها الخاصة والمتباينة إلى درجة كبيرة عن بقية الناتو، لم تكن تكترث كثيرا لحصول هذه الحرب أو بالأحرى كانت تتمنى حدوثها، وكان لها ما أرادت.
هذا بدوره يشير إلى أن الناتو نفسه ليس موحدا بهذا الشأن رغم الادعاء الرسمي المتكرر بخصوص وحدة موقفه من الحرب الروسية في أوكرانيا. وهذا ما يفسر الجنوح الفرنسي والألماني للاستقلال عن هيمنة القرار الأميركي وذلك من خلال المواظبة على الاستمرار في التواصل الدبلوماسي مع الكرملين وإبداء الرغبة الدفينة في إنشاء جيش أوروبي قوي تشكل ألمانيا وفرنسا نواته.
التدخل العسكري الروسي في الحرب الأهلية السورية لإنقاذ نظام بشار الأسد والتدخل الرمزي في ليبيا خطوة على طريق استعادة الدور الروسي على المستوى العالمي
وبعد أن أصبح سيناريو الحرب الروسية ضد أوكرانيا أمرا واقعا، بذلت وتبذل واشنطن قصارى جهدها لمحاصرة وإضعاف روسيا اقتصاديا بعد أن أثقلت كاهلها بوابل من العقوبات المؤلمة حتى دون التنسيق الكامل مع حلفائها المفترضين في الاتحاد الأوروبي. لكن في نفس الوقت، أقحمت واشنطن مرة أخرى وليست أخيرة، وعن سابق تصور وتصميم، حلفاءها الأوروبيين في المتاهة الروسية – الأوكرانية المتعددة الأبعاد والجوانب والانعكاسات.
فمن ناحية أولى، العقوبات الأميركية المتتالية ضد روسيا والتي شملت أخيرا قطاع النفط والغاز وضعت الاتحاد الأوروبي، وخاصة ألمانيا وفرنسا، في موقف محرج لا يحسد عليه، حيث أرغمت الإجراءات الأميركية دول الاتحاد الأوروبي على البحث عن بديل للغاز الروسي وفي فترة قياسية دون أن تكترث للمصالح والالتزامات الأوروبية وعلاقاتها الاقتصادية والتجارية والاستثمارية المتعددة والمتشابكة مع روسيا ودون تقديم البديل الملائم. والهدف من ذلك هو الإتيان بسياسة عالمية جديدة للطاقة تكون الريادة المطلقة فيها لواشنطن.
ومن ناحية ثانية، من ضمن الأهداف وراء الإجراءات الأميركية والبريطانية المتشددة ضد روسيا والدعم العسكري اللا محدود للجيش الأوكراني هو التشويش المتعمد على المساعي الدبلوماسية التي ما زالت تبذلها فرنسا وألمانيا أملا في التوصل إلى تسوية ستكون فيها الغلبة على الأرجح لموسكو.
ومن ناحية ثالثة، فإن مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين يتوافدون على دول الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يثقل ميزانية الاتحاد بأعباء جديدة لم تكن في الحسبان.
ومن ناحية رابعة، تعمل الصين على غرار الولايات المتحدة، على أن تكون أيضا من الرابحين في مهزلة الأقوياء في أوكرانيا وذلك بشراء الغاز والنفط الروسي وبأسعار منافسة جدا. هذا النفط والغاز الذي يبدو أنه سيتكدس قريبا بعد عزوف أوروبا القسري عن شرائه. أو ربما ستسعى بكين إلى مضاعفة التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري والتنسيق السياسي والدبلوماسي مع روسيا للانتقام من غريمتها اللدود، أي الولايات المتحدة. علاوة على ذلك، فإن الاعتداء الروسي على أوكرانيا قد أنعش نوايا الصين بشأن قضم تايوان.
هذه هي مأساة سياسة القوى العظمى التي يشير إليها جون ميرشماير في سياق نظريته المسماة “الواقعية الهجومية” في كتابه المعنون “مأساة سياسة القوى العظمى”. وجذر هذه المأساة يكمن في أن هذه الدول مجبولة على العدوان وتتصرف على هذا النحو على غير إرادتها لأن ذلك جزء من طبيعة رسالة القوة التي تمتلكها والقوة الإضافية والفائضة التي تلهث دائما لحيازتها. هذه القوة التي تدفعها على الدوام إلى خوض المغامرات من أجل امتلاك المزيد من القوة وتجريد الخصوم منها لتحقيق الهيمنة.
نعم إنها حرب الجميع ضد الجميع في أوكرانيا باستثناء الأوكرانيين الذين يكتوون بنار صراعات القوى العظمى في بلدهم دون أن يكون لهم فيها لا ناقة ولا جمل وبعد أن خذلت وأوهمت واشنطن قيادتهم غير الحكيمة وغير الرشيدة وتركتهم فرائس سهلة وطيعة تحت رحمة مخالب الدب الروسي الذي لا يرحم كأنداده من القوى العظمى الأخرى، والتواق دائما مثل نظرائه إلى التوسع والبطش والهيمنة.