أوكرانيا تحدد مستقبل العلاقة الأميركية – الأوروبية

بعد عامين ونحو تسعة أشهر، دخلت الحرب الأوكرانيّة، التي افتعلها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مرحلة جديدة يترتب فيها على أوروبا، خصوصا فرنسا وبريطانيا، تحمّل مسؤولياتها ومواجهة تحديات لا سابق لها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. يعود ذلك إلى أنّه لا يزال صعبا التكهن بحجم التغيير في الموقف الأميركي من تلك الحرب مع قرب دخول دونالد ترامب البيت الأبيض في العشرين من كانون الثاني – يناير المقبل.
لا يزال السؤال المطروح، دوليا وأوروبيا، ما الذي ستفعله القارة العجوز في حال حصول التغيير الأميركي الكبير من الحرب الأوكرانية، وهو تغيير سعى الرئيس جو بايدن إلى قطع الطريق عليه عندما سمح لأوكرانيا بضرب مواقع داخل الأراضي الروسيّة بصواريخ أميركيّة. هل يحاول بايدن الذي باتت أيامه في البيت الأبيض معدودة وضع خليفته في البيت الأبيض (دونالد ترامب) أمام أمر واقع؟
سيكون على أوروبا التحرّك سياسيا وعسكريا، في ظلّ ظروف في غاية التعقيد، من أجل منع سقوط أوكرانيا. سقوط أوكرانيا سيجرّ إلى سقوط كبير للقارة العجوز ودولها من جهة وإلى تغييرات داخلية كبيرة في غير دولة أوروبيّة من جهة أخرى.
◄ الحسابات الأوكرانية لبوتين كانت حسابات فاشلة. صحيح أنّه استطاع احتلال مساحات واسعة في البلد الجار، لكنّ الثمن كان غاليا وبات البحث عن صيغة لإنقاذ الوجه
بكلام أوضح، ثمة مخاوف أوروبيّة من أن يؤدي سقوط أوكرانيا تحت الهيمنة الروسيّة إلى زيادة شهية التمدد لدى فلاديمير بوتين الحالم باستعادة أمجاد الاتحاد السوفياتي. لم يخف الرئيس الروسي يوما طموحه لإعادة روسيا إلى وضع القوّة العظمى رافضا أن يتعلّم شيئا من دروس التاريخ، بما في ذلك الأسباب التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفياتي.
سيجعل سقوط أوكرانيا بلدانا أوروبيّة عدّة مهددة. من بين هذه البلدان بولندا التي عانت طويلا من ألمانيا النازية ومن الاتحاد السوفياتي في القرن الماضي. يشمل ذلك أيضا دول البلطيق الثلاث (لاتفيا وإستونيا وليتوانيا) التي كانت بين أول الدول التي انفصلت عن الاتحاد السوفياتي الذي سقط رسميا أواخر العام 1991.
كان لافتا في الأيام القليلة الماضية، بعد سماح إدارة جو بايدن لأوكرانيا باستخدام صواريخ أميركيّة لضرب مواقع داخل الأراضي الروسيّة، وهو قرار جاء متأخرا، دخول الصواريخ البريطانية ساحة المواجهة أيضا. ردّ الرئيس الروسي على ذلك باستخدام صاروخ باليستي، من نوع متطور، ضرب دنيبرو في وسط أوكرانيا. أراد القول إنّ روسيا لن تقف مكتوفة أمام الموقف الذي اتخذته إدارة بايدن التي سترحل في غضون أقلّ من شهرين. ذهب بوتين إلى أبعد من ذلك عندما هدّد بضرب الدول التي تستخدم صواريخها بضرب أهداف في الداخل الروسي. أي أنّ روسيا يمكن أن تضرب أهدافا في الولايات المتحدة وبريطانيا…
لا شكّ أنّ القوات الروسيّة تحقّق تقدّما على الأرض في أوكرانيا، على الرغم من الخسائر التي يتكبدها الجيش الروسي. يعرف فلاديمير بوتين أنّه لا يمتلك سوى التهديدات للحؤول دون انتقال الدعم الأميركي والأوروبي للرئيس فولوديمير زيلينسكي إلى مرحلة مختلفة. لا يزال يعتقد أنّ التهديد بالسلاح النووي سيحيّد أميركا وأوروبا. هذا ما جعل روسيا تغيّر عقيدتها المتعلقة باستخدام السلاح النووي، علما أنّ الطفل يعرف أنّ لا فائدة من هذا التغيير. لا لشيء سوى لأن دولا أخرى، بينها فرنسا وبريطانيا، تمتلك السلاح النووي أيضا… إضافة إلى الولايات المتحدة في طبيعة الحال!
تدرك أوروبا، أن الوضع في أوكرانيا يزداد صعوبة في ضوء تراجع القدرات العسكرية لأوكرانيا. لكنّها تدرك أيضا أن المحافظة على أوكرانيا المستقلّة مسألة حياة أو موت بالنسبة إليها. لعلّ ذلك ما دفع وزيري الخارجية الفرنسي والبريطاني جان نويل بارو وديفيد لامي إلى كتابة مقال مشترك في صحيفة “لو فيغارو” الفرنسية قالا فيه “لن ندع فلاديمير بوتين يعيد كتابة أسس العلاقات الدوليّة.” أضافا “إن فرنسا والمملكة المتحدة لن تدعا (بوتين) يحقّق أهدافه. سنبذل، مع حلفائنا، كلّ الجهود المطلوبة من أجل أن تكون أوكرانيا في الوضع الأفضل الذي يمكنها من الحصول على سلام عادل ودائم.”
◄ الرئيس الروسي لم يخف طموحه يوما لإعادة روسيا إلى وضع القوة العظمى رافضا أن يتعلم شيئا من دروس التاريخ بما في ذلك الأسباب التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفياتي
تبدو تطلعات فرنسا وبريطانيا كبيرة ولا تتناسب مع قدرات البلدين. عليهما أيضا أن يأخذا في الاعتبار الوضع المرتبك لألمانيا حيث يواجه المستشار أولاف شولتس وضعا داخليا صعبا يمكن أن يجعله خارج السلطة قريبا. لكن لا خيار أمام الفرنسي والبريطاني غير رفع التحدي لعلمهما أن البديل من ذلك يعني الخضوع لإرادة فلاديمير بوتين الذي يعاني بدوره من أزمات داخلية جعلته يرتمي في أحضان الصين بعد فشله في تحقيق هدفه الأصلي القاضي باحتلال كييف. أكثر من ذلك، اضطرت روسيا، من أجل متابعة الحرب إلى الاستعانة بالسلاح الإيراني. لجأت أخيرا إلى السلاح والذخائر الكورية الشمالية. لم يعد سرّا وجود جنود كوريين شماليين يقاتلون إلى جانب الجيش الروسي في الأراضي الأوكرانية المحتلّة.
انكشف الاتحاد الروسي منذ الأسبوع الأوّل للهجوم الذي قرّر فيه بوتين مهاجمة أوكرانيا. انكشف ضعف روسيا على غير صعيد بدءا بنوعية السلاح الذي تنتجه. تبيّن أن هناك هوة بين السلاحين الروسي والغربي. الأهمّ من ذلك كلّه، وفي ضوء العجز عن السيطرة على كييف، تبيّن أن الجيش الروسي باشر حربا من دون امتلاك المعلومات الدقيقة عن العدو. كان الجنرالات الروس يعتقدون أن معركة كييف لن تستغرق أكثر من أسبوع. لذلك، راحوا يلمعون ميدالياتهم في انتظار العرض العسكري الذي أعدّ له جيشهم في شوارع العاصمة الأوكرانيّة.
كانت الحسابات الأوكرانية لبوتين حسابات فاشلة. صحيح أنّه استطاع احتلال مساحات واسعة في البلد الجار، لكنّ الثمن كان غاليا وبات البحث عن صيغة لإنقاذ الوجه. لا يستبعد أن تتمثّل هذه الصيغة في قبول أوكرانيا، بضغط من ترامب، بالتخلي عن شبه جزيرة القرم التي وضعت روسيا يدها عليها في العام 2014.
ليس جو بايدن وحده الذي يريد وضع الرئيس الأميركي القديم – الجديد أمام أمر واقع. هناك فرنسا وبريطانيا اللتان تعرفان ما على المحكّ في أوكرانيا التي ستحدد حربها طبيعة العلاقات الأميركية – الأوروبيّة مستقبلا!