"أوسلو" المغدور به إسرائيليا وفلسطينيا

إذا أرادت الولايات المتحدة أو غيرها من الدول الغربية المهتمة بالبحث عن تسوية سياسية أو صفقة للسلام عليها أن تصنع طبخة ناضجة تراعي أخطاء اتفاق أوسلو وتبتعد عن عيوبه.
الجمعة 2023/12/22
سلطة فلسطينية منزوعة الدسم

رفع العدوان العسكري على قطاع غزة الغطاء عن الكثير من القضايا التي بذل فلسطينيون وإسرائيليون جهدا لتثبيت مفاصلها، في مقدمتها أن السبيل الوحيد لحل الأزمة بينهما هو التوصل إلى تسوية سياسية منتجة، لكن بعض التصريحات التي خرجت على لسان كبار المسؤولين من الجانبين حاولت دفن هذا التوجه.

في إسرائيل هناك من ندموا على توقيع اتفاق أوسلو الذي أدى إلى تأسيس سلطة فلسطينية منزوعة الدسم، واعترف رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو في خضم الحرب الجارية أنه عرقل كثيرا مفاوضات رمت إلى التأسيس لما بات يعرف بحل الدولتين، وظهرت سلسلة من التعليقات الحادة خرجت من أفواه متطرفين وغير متطرفين تعتبر فناء الفلسطينيين فيه حياة للإسرائيليين.

على الضفة الأخرى، اعترف عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية حسين الشيخ أن اتفاق أوسلو “مات”، ومن السهولة سرد تصريحات لم تعترف به أصلا، وهو ما عززه العدوان الحالي على غزة، والذي أعاد الحياة للتفكير في عملية سياسية جديدة لدى قوى دولية قد تضع حدا للصراع المزمن في منطقة الشرق الأوسط.

◙ اتفاق أوسلو كان حلما فهوى، ولن تجد القوى المهمومة برمزيته من يتعاون معها، من الجانب الفلسطيني تحديدا، من دون امتلاك رؤية واضحة ومنهج يفضي إلى تسوية قابلة للحياة

لم يناقش أحد الأسباب التي أفضت إلى أن يصبح أوسلو مغدورا به من جانب الإسرائيليين والفلسطينيين، وحاولت قوى دولية منزعجة من تداعيات حرب غزة القفز من خلال كثافة الإشارة إلى ضرورة قيام دولة فلسطينية، ولم يهتم هؤلاء بشكل الدولة المقترحة وحدودها وآليات الوصول إليها، ولم يظهر البعض اكتراثا بكيفية وقف الحرب، وتقف الإدارة الأميركية التي أبدت اهتمامها بالتسوية حائلا أمام التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، وكانت الدولة الوحيدة التي استخدمت الفيتو في مجلس الأمن لمنع صدور قرار يدعو لتهدئة طويلة.

يمثل الوقوف عند الأسباب التي غدرت باتفاق أوسلو أول خطوة للحديث عن أوسلو جديد، لأن الاتفاقيات المنقوصة لا تقيم سلاما مستقرا، وعرقلتها بعد الموافقة عليها تعيد الصراع إلى الواجهة بشكل أشد ضراوة، فبعد نحو ثلاثين عاما من ولادة قيصرية لتسوية سياسية مبتورة انفجرت حرب كادت تجرف معها كل أوسلو في المنطقة.

انتهى عمليا اتفاق أوسلو قبل أن يتحول إلى واقع حقيقي على الأرض بسبب الممارسات المتعاقبة التي انهالت تقزيما للسلطة الفلسطينية، ودخل التفاؤل بتوقيع المزيد من اتفاقيات السلام بين إسرائيل ودول عربية نفقا مظلما لا أحد يعلم متى سوف يتم تجاوزه، لأن الخطاب الذي يتبناه إسرائيليون من أطياف مختلفة لا يشجع على التفكير في تسوية مع الفلسطينيين أو يقنع راغبين وطامعين عربا في التطبيع.

من يفكرون في السلام قبل أن تتوقف الحرب لديهم طموحات سياسية عالية في إمكانية الضغط على الإسرائيليين والفلسطينيين للجلوس على طاولة واحدة، وربما تأكدوا من أن طريق التسوية قادر على وقف نزيف الدم في المنطقة، لكن أحلام هؤلاء دفعتهم إلى تجاهل التدقيق في الأسس التي يجب أن تقوم عليها التسوية، وهي تحدد إذا ما كان ستتم إعادة إنتاج أوسلو المغدور أم إدخال تعديلات على نسخته الجديدة، والتي يجب أن تحمل اسم عاصمة أخرى للإيحاء بوجود تفكير يستفيد من الدروس.

من الدروس التي كشف عنها اتفاق أوسلو أن ترحيل المشكلات وجعلها مفتوحة على احتمالات متباينة خطأ كبيرا، حيث تمنح الطرف الأقوى، وهو إسرائيل، فرصة للتنصل من التزاماته، وتجعل عملية التنفيذ المتدرجة عرضة لوقفها في أيّ لحظة، وترهن التطبيق بميول الحكومة الإسرائيلية عندما كانت هناك حكومات تتراوح بين اليمين واليسار، وفي ظل تصاعد دور المتطرفين صارت كل الحكومات يمينية.

كما أن الدول الضامنة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، لم تتحرك بما يكفي لحماية اتفاق جرت رعايته من قبل قوى كبرى، وتركت القيادات المتطرفة تمعن في تغوّلها على حساب الفلسطينيين، ووفرت غطاء سياسيا لتوسع نفوذ المستوطنين في الأراضي المحتلة، وصمتت عن انتهاكات ارتكبت خلال السنوات الماضية، ما أدى إلى فراغ سياسي سمح بتعزيز خطاب المقاومة كطريق لحل إشكالية الصراع مع إسرائيل.

إذا أرادت الولايات المتحدة أو غيرها من الدول الغربية المهتمة بالبحث عن تسوية سياسية أو صفقة للسلام عليها أن تصنع طبخة ناضجة تراعي أخطاء اتفاق أوسلو وتبتعد عن عيوبه، فلم يعد الفلسطينيون يتحملون التعاطي مع مسكنات أو يقبلون بتسويات منقوصة لتجاوز تحديات عاجلة، فما يحدث في غزة كفيل أن يقدم جيلا يمكن أن يتسبب في متاعب أكبر لإسرائيل في المستقبل.

◙ الوقوف عند الأسباب التي غدرت باتفاق أوسلو يمثل أول خطوة للحديث عن أوسلو جديد، لأن الاتفاقيات المنقوصة لا تقيم سلاما مستقرا، وعرقلتها بعد الموافقة عليها تعيد الصراع إلى الواجهة بشكل أشد ضراوة

تعتقد إسرائيل أن القبضة الحديدية تدجّن المقاومة وتعيد السياسيين إلى حظيرة أوسلو بكل تشوهاتها، لكن ما يجري الآن يقود إلى نتيجة مغايرة، قوامها أن الضغط يمثل ركيزة لانتزاع الحقوق من إسرائيل، لأن القضية لا تتعلق بأسماء حركات ترفع شعارات المقاومة وتطبقها أو تتبنى خيارات السلام وتبحث عنها، فقد أسفر اندلاع حرب غزة عن تعديل كبير في أدبيات التعامل مع إسرائيل والضغط عليها، ويمكن أن تختفي المزايدات بين الحركات المختلفة في خضم الغطرسة الراهنة.

أصبح الهدف الرئيسي لدى قوى كبرى البحث عن وسيلة لتوفير قدر من الهدوء للشعب الفلسطيني، فالمتغيرات التي أدت إليها الحرب سوف تفرض قواعدها على الإسرائيليين والفلسطينيين، وقوى مهمة في المجتمع الدولي تجد نفسها أمام ارتدادات إقليمية قاسية، ما يثبت أن القضية الفلسطينية أمّ القضايا في المنطقة، الهدوء أو التصعيد الظاهر فيها له علاقة وطيدة بالكثير من التطورات التي تجري في الشرق الأوسط.

لمست حرب غزة بعدا كشف عن عمق العلاقة بين هذه القضية وبعض الصراعات في المنطقة، وبصرف النظر عن مدى المتاجرة العسكرية والسياسية، فالتعامل الدولي مع القوى الفاعلة في هذه الصراعات لن يكون سهلا طالما أن القضية الأمّ مشتعلة ولا يوجد أفق لعملية سلام تعطي أملا بالقدرة على توفير حد مناسب من التسوية السياسية لا تكرر الفصول التي واجهها اتفاق أوسلو، وهذا الحد هو مدخل صحيح لضخ الدماء في شرايين قوى السلام التي تصدعت في إسرائيل وفلسطين السنوات الماضية.

كان اتفاق أوسلو حلما فهوى، ولن تجد القوى المهمومة برمزيته من يتعاون معها، من الجانب الفلسطيني تحديدا، من دون امتلاك رؤية واضحة ومنهج يفضي إلى تسوية قابلة للحياة، فما يموج به المجتمع الإسرائيلي من عنف ورغبة عارمة في الانتقام لا يساعد على إيجاد قاعدة متينة للتسوية، وإذا قبلت أيّ حكومة جديدة في إسرائيل التفاعل مع مبدأ السياسية سوف تعيد تقديم اتفاق أوسلو بطريقة أكثر تشوّها.

8