أنيسة حسونة.. دبلوماسية وناشطة اجتماعية مصرية قدّمت نموذجا للمرأة العربية

الدبلوماسية الراحلة قاومت السرطان وهزمتها جمعية مجدي يعقوب للأطفال.
السبت 2022/03/19
ملهمة المرأة

جمعت المصرية أنيسة حسونة الكثير من الخصال الإنسانية التي جعلت وفاتها، قبل أيام قليلة، فاجعة لشريحة كبيرة من المواطنين الذين اعتادوا رؤيتها في الكثير من المحافل الخيرية التي تسهم في تخفيف المعاناة عن الناس وتساعد المحتاجين وغير القادرين منهم، إلى جانب أنها كانت دبلوماسية وبرلمانية وكاتبة صحافية وشاركت في تأسيس عدد من المستشفيات المتخصصة في علاج محدودي الدخل.

ما آلم مصريين عرفوها عن قرب أو تابعوا أنشطتها أنها مثلت أيقونة للكثير منهم في القدرة على الصبر والمثابرة والمقاومة بعد أن تحولت إلى رمز في كيفية التعامل مع مرض السرطان الذي داهمها فجأة، ونجت منه مرتين وفي المرة الثالثة انتصر عليها.

استحضر البعض ممن عرفوها الكثير من ذكرياتهم معها وأكدوا على نبل أخلاقها وإخلاصها للعمل الاجتماعي، فهي التي لم تدخر وقتا أو تبخل بجهد أو تضن بمال لتخفيف المتاعب عن الفئات التي تعاملت معها مباشرة أو عبر مؤسسات أسهمت في أنشطتها المتعددة، فالحس الإنساني العالي وربما صراعها المضني مع المرض، جعلاها أكثر قربا من الناس، ومن المرأة والأطفال على وجه الخصوص.

◙ تجاربها المتعددة تجعل من حسونة نموذجا للمرأة العربية، وقد تم اختيارها من قبل مجلة "أرابيان بيزنس" عام 2014 على قائمتها السنوية لأقوى 100 امرأة عربية عن مجالي المجتمع والثقافة

 ينجذب الناس إلى أصحاب الدور الإنساني ويلتصقون أكثر بمن يشاركهم الآلام ويعبر عن نبض حياتهم، وتمكنت حسونة من الجمع بين كل هذه الخصال من خلال المهام الرسمية التي تولتها كدبلوماسية وعضو في مجلس النواب سابقا، وكاتبة وناشطة اجتماعية حتى وفاتها.

ما ساعدها على تنوع أدوارها وتأثيراتها أنها كانت صاحبة طلة بهية في وسائل الإعلام المصرية، يشعر المتابعون لها بتلقائية وتمكن من توصيل رسائلها من أقصر الطرق إقناعا، وهي الصدق والشفافية والإخلاص والمشاعر الإنسانية الجياشة التي تلمس القلوب على الفور.

أعتقد أن حزن المصريين عليها والذي ظهر أثناء تشييع جثمانها وعبارات الرثاء التي تكاثرت على وسائل التواصل الاجتماعي لم تأت من قوة إرادتها وشجاعتها وصلابتها بقدر ما كانت ترجع إلى أن قطاعا كبيرا وجد نفسه فيها أو تخيل ذلك، لأنها مثلت نموذجا راقيا في العمل الأهلي التطوعي، وهي من القلة التي نعاها سياسيون، مؤيدون ومعارضون، فلم تترك مساحة قاتمة أو حتى رمادية يتسلل الغضب منها.

قد تكون الكتابة الموضوعية والعلمية من أهم أدوات الصحافي للإقناع، غير أنها في حالة حسونة، وأنا الذي لم أعرفها عن قرب، يتداخل فيها العاطفي مع العقلي، فهي مزيج مما يعتمل داخل الإنسان من صراع بين الجانبين، يصل إلى الدرجة التي يعكس كلاهما الآخر بسهولة، لأن من تابعوا إخلاصها في المهام التي قامت بها يشعرون بالنقاء والصفاء والفطرة، ما جعلها محل إجماع من قبل الكثيرين.

الدبلوماسية والسير

◙ حسونة تمثل أيقونة للكثير من المصريين في القدرة على الصبر والمثابرة والمقاومة
حسونة تمثل أيقونة للكثير من المصريين في القدرة على الصبر والمثابرة والمقاومة

عقب رحيلها انتشرت رواية يصعب تصديقها بشأنها والجهة التي قيل إنها ظلمتها، وتتعلق بـ”طردها” أو تجريدها من مسؤولياتها في مستشفى البروفيسور مجدي يعقوب أشهر طبيب أطفال في العالم، والتي أنشأها في مدينة أسوان بجنوب مصر.

تداخلت الحكايات والقصص بين من قال إنها تعرضت إلى معاملة غير لائقة تصل إلى حد المهانة من مجلس إدارة المستشفى أصابتها بانتكاسة مرضية وزادت آلامها السرطانية، وبين من قال إن الانفصال بينهما جرى وديا وله أسباب منطقية.

في ظل نقص المعلومات وتشويهها أحيانا أساء ما تناثر من تكهنات وتخمين لها وللسير مجدي يعقوب، لأن القاسم المشترك بينهما يكمن في حجم الفائض الإنساني، فلا هي تستحق معاملة خشنة من المؤسسة ولا هو يقبل بأحد يعمل معه استخدام ذلك مع أيّ شخص، فما بالنا إذا كان امرأة نبيلة في وزنها الأخلاقي والعلمي.

روت حسونة المولودة في يناير عام 1953 بنفسها قصة خروجها من جمعية مجدي يعقوب في أحد اللقاءات التلفزيونية بطريقة لا تخلو من غصة أو هزيمة غير متوقعة، ويمكن الشعور بالتعاطف معها.

◙ العديد من المشاريع الهامة يعود تأسيسها ودعمها إلى حسونة، فهي مؤسسة ورئيسة "مؤسسة مصر المستنيرة" التي تروج لقيم المواطنة والمساواة بين الجنسين، وعضو مؤسس في "مركز الفكر للمرأة العربية"، و"منتدى المواطنة العربية في الديمقراطيات الانتقالية"

لكن يصعب اليقين بأنها تعرضت إلى مهانة عن عمد، فالألم الذي شعرت به وردّده البعض بعد وفاتها جاء من شغفها بالعمل التطوعي، ومشاركتها بدور فاعل في وقوف الجمعية على قدميها لتصبح من أهم المؤسسات الخيرية الناجحة في مصر.

ألمحت حسونة في حوارها مع الإعلامي محمود سعد الذي كان يقدم برنامج “باب الخلق” على قناة النهار ونقله حاليا على قناته على يوتيوب، إلى أنها أجبرت على ترك منصب المدير التنفيذي لمؤسسة مجدى يعقوب. وقالت “استبعدت من مؤسسة مجدي يعقوب بسبب تعييني في مجلس النواب المصري بعد ثماني سنوات، وقالوا إن العمل يتعارض مع عضوية المجلس وعرضت عليهم تجربتي لمدة ستة أشهر لكنهم رفضوا”، ما يعني أن استبعادها تم لأسباب إدارية لا علاقة مباشرة لها مباشرة بالطبيب مجدي يعقوب.

قد تكون الطريقة التي نقلها البعض عنها تنطوي على إساءة للجمعية لأنها حوت تجاوزات فيما يتعلق بتصفية متعلقاتها من مكتبها، لكن في النهاية تعسف بيروقراطي قام به موظفون أو أنصاف موظفين من دون إدراك إلى رمزية المكان ومؤسسه. والدليل أن حسونة ظلت روحها معلقة بهذا المستشفى، وقالت في الحوار نفسه “افتقدت مؤسسة مجدى يعقوب، ومحافظة أسوان، لأنى وضعت روحي في مؤسسة مجدي يعقوب وأبلغت من سكرتيرتي ممنوع دخول المكتب”.

وتثبت هذه المسألة أن المسألة لا علاقة لها بالسير يعقوب الذي تصور الكثيرون أنه قام عمدا بالاستغناء عنها أو تحالف مع السرطان عليها، فإذا كانت حسونة مغرمة بالعمل التطوعي ولها بصمات فيه فما فعله الطبيب العالمي في هذا المستشفى يمثل قدوة يصعب تجاهلها، لأنه خفف الكثير من آلام المرضى الأطفال في ربوع مصر.

سيدة التحديات

◙ آخر ظهور لحسونة يعود إلى حفل تكريمها الذي شهدته قرينة الرئيس المصري انتصار السيسي بيوم العالمي للمرأة
آخر ظهور لحسونة يعود إلى حفل تكريمها الذي شهدته قرينة الرئيس المصري انتصار السيسي بيوم العالمي للمرأة
◙ حسونة لم تدخر وقتا أو تبخل بجهد أو تضن بمال لتخفيف المتاعب عن الفئات التي تعاملت معها مباشرة أو عبر مؤسسات أسهمت في أنشطتها المتعددة
حسونة لم تدخر وقتا أو تضن بمال لتخفيف المتاعب عن الفئات التي تعاملت معها مباشرة أو عبر مؤسسات أسهمت في أنشطتها المتعددة

حصلت حسونة على بكالوريوس الاقتصاد والعلوم السياسية من جامعة القاهرة، وبدأت حياتها المهنية كدبلوماسية في وزارة الخارجية المصرية، وانتقلت لاحقًا للعمل في مجلس الوحدة الاقتصادية العربية ومنتدى مصر الاقتصادي الدولي كمدير عام.

كان آخر ظهور لها في حفل التكريم الذي شهدته قرينة الرئيس المصري انتصار السيسي في اليوم العالمي للمرأة وتم تكريمها تقديرا لدورها وجدّها في العمل الخيري، وظهرت وهي على كرسي متحرك، وكانت هذه المناسبة بداية العد التنازلي لغلق ستارة المسرح الإنساني الكبير الذي تحركت حسونة بين جنباته على مدار نحو عقدين من العمل التطوعي والاجتماعي، حيث هزمها السرطان بالضربة القاضية الذي روت قصته برشاقة في كتابها “بدون سابق إنذار”.

سردت حسونة الكثير من التفاصيل الدقيقة لإصابتها بالمرض اللعين عام 2014 في هذا الكتاب، وأنها تمكنت من الشفاء منه مرتين بعد نصيحة قريبة لها بأن تتعامل معه على أنه صديق “رزل” بالعامية المصرية، وهي تعني أنه ثقيل ومؤلم، لكنه أصابها للمرة الثالثة وتغلب عليها، وهو ما كانت تتوقعه في أيّ لحظة.

أشارت إلى حالتها على حسابها على فيسبوك والذي كان بمثابة منتدى اجتماعي يجمع الكثير من الأصدقاء والراغبين في متابعتها، وقالت “جلست أستمع في ذهول للطبيب الذي نصحني بترتيب أموري المادية وغيرها قبل موعد مغادرتي المحتوم لهذه الحياة، لم أفهم كلماته حينها أو أستوعبها فانزلقت بوقعها القاسي على إدراكي وكأنها قطرات ماء تنزلق على زجاج دون أن تترك به أثرا، بينما ظللت جالسة أمامه في سكون وزوجى والبنات مثلي، وعقلي يدور بسرعة 360 درجة في الثانية بين مختلف الاحتمالات، وأنا غير مصدقة أن ذلك يحدث لي في الواقع”.

الجذور الاجتماعية التي تتحدر منها حسونة تكشف أسباب حيويتها الإنسانية ونجاحها في أن تكون ملهمة للمرأة، فوالدها وزير العدل الراحل عصام الدين حسونة هو من أصدر قرارًا بإلغاء تنفيذ طاعة الزوجة لزوجها بالقوة الجبرية

وأضافت بأسلوب يجمع بين الأدب وقوة الصلابة والعاطفة “أصبت بهذا المرض الخطير فعلا واستمررت في النظر إلى وجهه وهو ما زال يتحدث وأنا أتساءل في ذهني ماذا أفعل هنا؟ لا بد أن هذه الإشاعات وتقاريرها يخصان مريضة أخرى، وأن خطأ ما قد حدث بتسليمها لي كما يحدث في الأفلام السينمائية، وأن شخصا سيفتح باب الغرفة فجأة ويعتذر عن هذا الخطأ الجسيم ويخبرني أن نتائج الأشعة الخاصة بي سليمة وأنني على ما يرام، وبالتالي نتنفس الصعداء ونغادر جميعا المركز الطبي سعداء ونعود إلى حياتنا العادية، ويمكنني بعد ذلك أن أضيف هذه القصة إلى محصول القصص الكوميدية التي نحكيها عما يحدث لنا”.

حدثت مفاجآت خطيرة في المرض الذي أصيبت به، دون سابق إنذار أو توقع، لأن المخ لا تظهر به التطورات المرضية وأجرت فحوصات معقدة ووجد الأطباء أن المخ أصيب بمرض يتوجب أخذ علاج يحد من القدرة على الحركة ويمتص الطاقة.

خاضت الرحلة بكل جسارة ولم تستنكف من تساقط شعرها بسبب جرعات العلاج الكيميائي المؤلمة، ولم تخجل من الظهور أمام الناس دون أهم ما يزين المرأة وهو شعرها، وتحولت المحنة إلى منحة بالنسبة إلى الآخرين حاولوا استلهام العبر من تجربتها.

تعد حسونة وتجاربها المتعددة نموذجا للمرأة العربية، لأن سيرتها فيها الكثير من الدروس التي لا تقتصر على أبعادها الإنسانية ودورها التطوعي، فقد تم اختيارها من قبل مجلة “أرابيان بيزنس” عام 2014 على قائمتها السنوية لأقوى 100 امرأة عربية على مستوى العالم، عن مجال المجتمع والثقافة.

من يراجع الجذور والبيئة الاجتماعية التي نشأت فيها يكتشف على الفور أسباب حيويتها الإنسانية ونجاحها في أن تكون ملهمة للمرأة، فوالدها الراحل عصام الدين حسونة عندما كان وزيرا للعدل في عهد الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر أصدر قرارًا بإلغاء تنفيذ طاعة الزوجة لزوجها بالقوة الجبرية.

وضع هذا القانون نواة رئيسية لتطور النظرة إلى المرأة في مصر في الأمور الشخصية، وأعقبته قوانين مهمة جعلتها الآن تحصل على مكاسب عديدة افتقدتها طويلا، وأصبحت على قدم المساواة مع الرجل في الحقوق والواجبات، لذلك اعتبرت حسونة، وغيرها من السيدات، عهد الرئيس السيسي من أكثر العهود المصرية انصافا للمرأة.

شغلت حسونة العديد من المناصب وقامت بالكثير من المهام، فهي مؤسسة ورئيسة “مؤسسة مصر المستنيرة” التي تروّج لقيم المواطنة والمساواة بين الجنسين، وعضو مؤسس في “مركز الفكر للمرأة العربية”، و”منتدى المواطنة العربية في الديمقراطيات الانتقالية”، و”جبهة حماية حرية

الإبداع والتعبير”، و”منتدى المرأة العربية الدولي” بلندن، وغرفة التجارة الأميركية في القاهرة، ومن مؤسسي مستشفى الناس الخيري للأطفال لتقديم الخدمة المجانية للمرضى.

ترك رحيلها فراغا في الأدوار المجتمعية التي كانت تقوم بها عن حب، لكن ستظل سيرتها الإنسانية عطرة لكل من يريد المساهمة في العمل الإنساني، والقدرة على التوفيق بين الشخصي والعام، حيث لعبت دور المتطوعة والناشطة والزوجة باقتدار.

12