أنصاف الرواتب تضيق الخناق على معيشة الفلسطينيين

دفتر الدين أصبح طوق النجاة الوحيد للفلسطينيين من الأزمة الاقتصادية والظروف المعيشية المأساوية وتأخر الرواتب.
الجمعة 2020/11/13
الشراء بالدين ممنوع

غلاء الأسعار وتأخر الرواتب ثم استلام نصف الراتب زادت من أزمة معيشة الموظفين الفلسطينيين في الضفة الغربية الذين اختار البعض منهم البحث عن عمل إضافي في القطاع الخاص أو حتى في إسرائيل لكن إجراءات الحجر عطلتهم، وذلك في مسعى منهم لإيجاد حلول لأزمتهم المتفاقمة.

رام الله- دخل محمود عمارنة، مدرس فلسطيني من مخيم الدهيشة جنوب الضفة الغربية، عامه الـ34 في الخدمة بقطاع التعليم، ومع الترقيات وأقدمية الخدمة يتقاضى حاليا راتبا قدره 3500 شيكل (1040 دولارا).

لكن راتب عمارنة، إضافة إلى راتب زوجته الموظفة أيضا، بالكاد يسدان الاحتياجات الأساسية للأسرة مع الارتفاع المستمر في تكاليف المعيشة بالأراضي الفلسطينية.

يطبق في فلسطين غلاف ضريبي وجمارك واحد تقريبا مع إسرائيل، مع اختلاف الحد الأدنى للأجور في كلا البلدين، فبينما يصل إلى 5300 شيكل (1558 دولارا) في إسرائيل، فإنه يبلغ 1450 شيكلا (425 دولارا) في فلسطين.

وقال عمارنة “منذ تعييني، زاد راتبي تدريجيا حتى أصبح على ما هو عليه الآن، لكنه لم يعد يكفي مع تضاعف أسعار السلع، إضافة إلى تراكم التزامات جديدة كأقساط المدارس والجامعات. وزاد الأمر سوءا مع اضطرار السلطة الفلسطينية لصرف نصف راتب فقط، ما راكم علينا الديون”.

حتى دفتر الدين في البقاليات الذي كان يعتمده الفلسطينيون في تيسير أمورهم اليومية، كونه المتنفس الوحيد لهم لتجاوز الأزمات التي تثقل كاهلهم يوما بعد يوم، أصبح يضايق أصحاب البقاليات بعد أن تراكمت ديون زبائنهم وتأخروا عن الدفع.

أسعار الخضار ترتفع كل يوم
أسعار الخضار ترتفع كل يوم

وللشهر الخامس على التوالي، صرفت السلطة الفلسطينية الشهر الماضي نصف راتب لموظفيها، تحت ضغط أزمتي جائحة كورونا وعدم تسلم عائدات المقاصة من إسرائيل، والتي تقدر بنحو 200 مليون دولار شهريا.

وزاد من حدة الأزمة المالية توقف الدول العربية عن دفع التزاماتها المالية للسلطة الفلسطينية. ويلجأ الكثير من الموظفين العموميين الفلسطينيين للاستدانة من زملاء لهم أفضل حالا، أو من محلات البقالة، وتأجيل أقساط القروض المصرفية على أمل تسديدها بعد صرف المتأخرات من رواتبهم.

ويقول المدرس أبوسيف “لم أستطع تقبل فكرة استدانة الطعام والاحتياجات البسيطة من صاحب البقالة المجاور لمنزلي، لكنني أجبرت على ذلك  عندما اشتد الحال سوءا، فبعثت ابني ومعه ورقة صغيرة لأبوصلاح صاحب المحل مسجلا عليها ما نحتاجه طالبا منه فتح دفتر دين خاص بي على أن يتم دفع الدين مع بداية كل شهر”.

ويضيف “وافق أبوصلاح على ذلك مؤكدا على الالتزام بالدفع، لكن منذ ثلاثة شهور لم أستطع تسديد أي جزء من الديون المتراكمة في دفتر الدين حتى وصلت لـ800 شيكل، الأمر الذي جعل البقال يقوم بتجميد حسابي إلى حين أن أسدد المبلغ، مما اضطرني إلى اللجوء لبقالة أخرى في الشارع الخلفي للمنزل”.

دفتر الدين أصبح طوق النجاة الوحيد للمواطنين من الأزمة الاقتصادية والظروف المعيشية المأساوية وتأخر الرواتب، لكن عدم الالتزام بتاريخ الدفع وضع الزبائن وأصحاب البقاليات في موقف محرج، لذلك أصبحت العديد من البقاليات لا تعتمده، وتكتب على واجهة محلاتها “الرجاء الدفع مسبقا”.

ويقول أبوصلاح إن محله لا يخلو من دفاتر الدين ويتعامل بها مع أغلب سكان الحارة الذين يقومون بتسديد الديون بصورة شهرية عند استلام الرواتب،  لكن تأخر الرواتب خلّف خسائر وعجزا عن سداد فاتورة توريد المنتجات من التجار والموزعين، ما دفعه إلى رفع شعار “ممنوع الدين”.

أزمة المقاصة وجائحة كورونا إلى تراجع إجمالي الإيرادات بنحو 70 في المئة
أزمة المقاصة وجائحة كورونا إلى تراجع إجمالي الإيرادات بنحو 70 في المئة

وأشار إلى أن عددا كبيرا من أصحاب البقالات في الضفة أغلقوا دفاتر مديونيات الزبائن قبل نهاية العام الماضي تفاديا للعجز عن سداد تكاليف السلع التموينية، وأنهم منحوا زبائنهم مهلة للسداد وبعضهم قاموا بمسامحتهم.

وهناك موظفون آخرون لأعمال أخرى لدى القطاع الخاص، حتى أن البعض يضطر للعمل في إسرائيل خلال الإجازة الأسبوعية، لكن الإغلاقات التي ترافقت مع انتشار فايروس كورونا جعلت هذه الخيارات أكثر ضيقا.

وقال ماجد عبد (مدرس) إنه لا يتردد في العمل في قطاع البناء داخل إسرائيل، حيث يتقاضى في أربعة أيام أكثر من نصف الراتب الذي يتقاضاه من وظيفته في السلطة
الفلسطينية.

ووفقا لبيانات وزارة المالية، فقد أدت أزمة المقاصة وجائحة كورونا إلى تراجع إجمالي الإيرادات بنحو 70 في المئة، ورافق ذلك تراجع في المساعدات الخارجية بأكثر منالنصف.

العديد من الموظفين اضطروا للعمل في إسرائيل خلال الإجازة الأسبوعية، لكن إجراءات الحجر الصحي ومنع السفر جعلا هذه الخيارات صعبة

وقال المرشد الاجتماعي والنقابي السابق يوسف أبوراس إن الموظف يتدبر أموره عبر الاستدانة إما من الأهل والأقارب أو من المحلات التجارية التي اعتاد الشراء منها، مشيرا إلى وجود عجز أصلا في تغطية الراتب كاملا للاحتياجات اليومية.

وأضاف “قدرة الموظف على الصمود في هذه الظروف مرتبطة بمدى قدرة المحلات التجارية على البيع بالدين.. عشرات الآلاف من الموظفين يعتمدون على الاستدانة من المحلات التجارية، أي الاعتماد الكلي على القطاع الخاص”.

ويبلغ إجمالي عدد الموظفين العموميين في فلسطين حوالي 136 ألفا، تصل فاتورة أجورهم الشهرية إلى 160 مليون دولار، وترتفع الفاتورة إلى نحو 250 مليون دولار بإضافة رواتب المتقاعدين والمخصصات الاجتماعية لعوائل الشهداء والأسرى والجرحى والأسر الفقيرة، فيما يعرف بـ”أشباه الرواتب”. ووفقا لبيانات نشرها الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني في يوليو الماضي، فإن 29 في المئة من الأفراد يعيشون تحت خط الفقر.

ووفق آخر تحديث في العام 2017، يبلغ خط الفقر لأسرة معيارية مكونة من والدين وثلاثة أبناء حوالي 670 دولارا (أقل من 5 دولارات للفرد في اليوم)، بينما يبلغ خط الفقر الشديد حوالي 535 دولارا للأسرة (3.5 دولار في اليوم). ولتوفير نصف الراتب للموظفين العموميين وبعض الالتزامات الأخرى، لجأت الحكومة الفلسطينية إلى الاقتراض من البنوك، ليتجاوز دينها للمصارف 2.2 مليار دولار.

ويضاف هذا الدين إلى قروض خارجية بنحو 1.3 مليار دولار، إضافة إلى متأخرات لموردي السلع والخدمات من القطاع الخاص تتجاوز مليار دولار، ومتأخرات لصندوق تقاعد الموظفين العموميين تقترب من ملياري دولار، ليتجاوز إجمالي الدين إلى حوالي ستة مليارات دولار.

20