أكثر من معارضة في مصر

المعارضة التي تلعب على بعض الأخطاء السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية ويتم استثمارها كي تبدو منطقية لا يقلق النظام منها ولا يمسها أذى إلا في الحدود التي تمثل تجاوزا سياسيا.
الاثنين 2023/09/11
المعارضة الأعلى صوتا ليست الأكثر تأثيرا

يصعب وصف المعارضة في مصر بأنها كتلة واحدة تعارض النظام الحاكم، فقد أبدعت التطورات السياسية حالة فريدة غير متداولة كثيرا، لأن الأحزاب والقوى والشخصيات التي تندرج تحت عباءة المعارضة فضفاضة، منها ما هو عقائدي ومن يقف في خندق الحكومة، ومن لا يسمع صوته، ويعبر صمته عن حالة سياسية أحيانا.

ربما يندهش من هم يعيشون خارج مصر من قراءة تصريحات لرئيس حزب معارض يترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية ويعلن تأييده للرئيس الحالي، ويرى أن هذه المفارقة من النوادر المصرية، بينما هي حقيقة واقعة، حيث لا توجد أحزاب معارضة بالمعنى السياسي الشامل، وإن وجدت قيادات لديها مواصفات تدرجها في نطاق المعارضة فهي تفتقر إلى الشعبية نتيجة التجريف السياسي الذي شهدته البلاد في السنوات الماضية، وتتحمل المعارضة ذاتها جزءا منه.

◙ المعارضة الطيّعة اللينة تظل هي الأكثر خطورة على الدولة المصرية، لأنها تعتمد على حجم المكاسب التي يمكن جنيها، وتتمثل غالبا في الحصول على عضوية في إحدى غرفتي البرلمان

يتعامل النظام المصري مع المعارضة على أنها جماعات متفرقة، لكل منها طريقة في التعامل معها، فجماعة الإخوان ومن يدورون في فلكها بالخارج لهم تصنيف مرفوض، إذ يستشيطون غضبا في كل الحالات ولا توجد لديهم مساحة جيدة للمعارضة الوطنية، فمنتهى أمانيهم أن يجدوا مؤسسات الدولة مبعثرة، والمواطنين في أزمات مستمرة، والمشكلات الداخلية لا تتوقف، ويتوقون إلى رؤية النظام عاجزا عن المواجهة.

يفتقر هؤلاء للقاعدة السياسية في الداخل، ومن يطربون لخطابهم في مصر فئة متضررة من سياسات السلطة بشكل مباشر أو غير مباشر، وفئة تطرب لخطاب يدغدغ مشاعرها ويخدعها بحلو الكلام، ويكتفي أفراد الفئتين بالتلذذ بما يرونه من مشاهد يعتقدون أنها تمثل ضغطا على النظام المصري، والذي يخشاهم أكثر من غيرهم، لأنهم يمكن تحويلهم إلى أدوات طيعة وفاعلة في أي محكات تخرج عن سيطرة الدولة.

بالتوازي مع التيار العقائدي، الذي تمثله جماعة الإخوان ورفاقها ممن يصنفون في خانة المتشددين والإرهابيين، توجد نماذج من الشخصيات الليبرالية واليسارية التي لا تتوقف عن مناكفة النظام المصري في الحدود التي تلتزم بالقانون وتحاول التقيد بضوابط العمل السياسي، لكنها تستغل هامشا من الحريات تسمح به الدولة أحيانا كنوع من التنفيس والإيحاء بأن المجال العام ليس منغلقا أو لا تحتكره جماعة الإخوان.

بين صفوف هذا التيار شخصيات تمارس ما يمكن وصفه باستعراض القوة السياسية، ولديها رؤية واضحة في المعارضة التي تلعب على بعض الأخطاء السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية، ويتم استثمارها كي تبدو منطقية، ولا يقلق النظام منها إلا في الحدود التي تحاول فيها تأكيد أنه عاجز عن الاقتراب منها أو يفشل في مواجهة التحديات، ولا يمسها أذى مادي أو معنوي إلا في الحدود التي تمثل تجاوزا سياسيا، ويتم العقاب بموجب قوانين بها من المرونة ما يسمح بإدانتها.

من المفيد الإشارة إلى أسماء لتوضيح الصورة، فالقيادي في التيار الليبرالي هشام قاسم يتعرض لمحاكمة بتهمة سب وقذف ضباط وجنود شرطة في قسم السيدة زينب بوسط القاهرة، وتم تحويله إلى التحقيق أصلا في تهمة مماثلة ضد القيادي العمالي ووزير القوى العاملة الأسبق كمال أبوعيطة.

◙ قد يكون وجود أكثر من معارضة في مصر ميزة وعيبا في الوقت نفسه، يتوقف التوصيف النهائي لأيهما على مدى معرفة الخارطة السياسية وتنويعاتها

كان يمكن أن يغلق الملف بسهولة في بداية التحقيقات بالنيابة العامة، غير أن عناده السياسي، وسعيه لتحويل اتهامه إلى مادة دسمة أو قضية سياسية، قاداه إلى مأزق لا يشعر هو نفسه بالندم عليه حتى الآن، حيث أراد أن يقيم الحجة على نظام يرفض الاستجابة لهذا النوع من الضغوط خوفا من تمادي آخرين فيها، وسواء أفرج عن قاسم سريعا أم لا فقد ضرب مثلا في قدرته على التحدي في توقيت بالغ الحساسية، إذ تستعد البلاد لإجراء انتخابات الرئاسة في غضون أشهر قليلة.

تعد معارضة هشام قاسم، أو يحيى حسين عبدالهادي الذي اقتيد للتحقيق في قضية سب وقذف ونشر أخبار “كاذبة” تنظرها المحاكم وهو خارج السجن، غير مضرة بالنظام المصري إلا في الحالة التي يحاول فيها أصحابها مناطحته وإظهاره في صورة قاتمة، وهو الذي لديه من السماحة ما يجعله لا يلقي بالا لهؤلاء، لكن عندما تنطوي ممارستهم على إزعاج يصعب تحمله تحدث المواجهة في فضاء المحاكم.

ظل قاسم يمارس هوايته في المعارضة سنوات ويدلي بحوارات وتصريحات لوسائل إعلام إخوانية وغربية ولم تقترب منه أجهزة الدولة مباشرة، وكان الاستهداف الوحيد يأتي في شكل انتقادات يقوم بها بعض الإعلاميين القريبين من الحكومة، تطوعا أو تنفيذا لأوامر، إلا أنها تظل في الحدود الآمنة، فلم يتعرض الرجل لتجاوزات مخيفة.

هناك معارضون تتسم انتقاداتهم بالقسوة والاعتدال ممن كانوا أو مازالوا قريبين من النظام المصري ويحمل خطابهم شيئا من المعارضة والقواسم الوطنية المشتركة، وغالبية التحفظات تنصب على التوجهات والسياسات بهدف التصويب وليس الشماتة والبحث عن تبني تصورات أكثر فائدة إذا أحسن اختيار أصحاب الكفاءات ووضعهم في الأماكن المناسبة، وهي في مجملها تصورات تحمل اعتراضا واضحا على منح الثقة المفرطة لبعض الأقارب والأصدقاء وكل من أثبتوا ولاء طاغيا.

◙ النظام المصري يتعامل مع المعارضة على أنها جماعات متفرقة، لكل منها طريقة في التعامل معها، فجماعة الإخوان ومن يدورون في فلكها بالخارج لهم تصنيف مرفوض

يمارس هذا الفريق دوره في المعارضة القاسية بلا مظلة حزبية، ويعلم المنتمون إليه أن تاريخهم السياسي النزيه يشفع لهم في أن تقبل السلطة انتقاداتهم حتى لو امتعض البعض داخلها منها، لأن المربع الذي ينطلقون منه له مؤيدون أيضا يرون فيهم قوة ناعمة حية يمكن الاستفادة منها عند لحظة معينة، وقد يكون هؤلاء ملح الأرض، لأن لهم طعما سياسيا فريدا، ولا يملك من يختلفون معهم سوى احترامهم.

تظل المعارضة الطيّعة اللينة هي الأكثر خطورة على الدولة المصرية، لأنها تعتمد على حجم المكاسب التي يمكن جنيها، وتتمثل غالبا في الحصول على عضوية في إحدى غرفتي البرلمان، مجلسي النواب والشيوخ، أو وظيفة مرموقة في إحدى المؤسسات التابعة للدولة، وفي الوقت الذي يعتقدون أنهم يقدمون خدمات جليلة للنظام لا يعلمون حجم ما يمثلونه من ضرر له، حيث يسيء نفاقهم إلى سمعته السياسية.

مهما زادت أو قلت قوة أحزاب المعارضة تبقى هامشية مقارنة بما يسمى بحزب “الكنبة” في مصر، وهم الأغلبية الكاسحة الصامتة من المواطنين، والذين يمكن جذبهم في اللحظات الفارقة، يمينا أو يسارا، في كفة النظام أو الكفة المقابلة، يمثل رضاهم إضافة نوعية للنظام الحاكم، ويمكن أن يتحول غضبهم إلى قنبلة حقيقية قابلة للانفجار.

قد يكون وجود أكثر من معارضة في مصر ميزة وعيبا في الوقت نفسه، يتوقف التوصيف النهائي لأيهما على مدى معرفة الخارطة السياسية وتنويعاتها، فالأعلى صوتا لا يعني أنه الأكثر تأثيرا، والعكس صحيح، ما يجعل النظام المصري يقيم معادلته على أساس التفرقة بين معارضة وأخرى، وفقا لأهدافها وتشابكاتها وأجنداتها الخفية والقواعد التي تنطلق منها.

8