أكثر من رئيس تحرير.. إنه صديق

ليس من قبيل الإطراء أن نعدد خصال الدكتور هيثم وهو بين يدي خالقه، لكنها الحقيقة؛ فقد كان رجلًا يمتلك قدرًا كبيرًا من الذكاء الحاد ويفهمك قبل أن تنطق بكلمة.
الخميس 2025/05/22
القائد والمعلم.. والصديق

رحيل الدكتور هيثم الزبيدي، رئيس تحرير والمدير العام لصحيفة “العرب” اللندنية، شكّل فاجعة كبرى لكل من عرفه، سواء من تعايش معه أو تعامل معه أو اشتغل معه، أو حتى لمن صادفه مصادفةً وقال له صباح الخير في المصعد المؤدي إلى مقر الجريدة.

منذ أن عرفت الدكتور هيثم، رحمه الله، في أواخر عام 2017، ثم انضمامي إلى فريق تحرير الصحيفة، كان كل يوم يمر بوجهين متناقضين تمامًا. الأول، تشعر فيه وكأنك في سجن، لشدة حرصه على متابعة أدق تفاصيل التحرير من مكتبه في لندن، خطوة بخطوة. أما الوجه الثاني، وهو الأجمل، فيظهر في دقائق معدودة حين تتحدث إليه بعد طباعة الجريدة، حيث تشعر بأن تعب النهار قد انزاح، وتفهم بعد السابعة مساءً بتوقيت تونس أنك تتحدث إلى شخص آخر غير الذي أشرف على العمل ووافق أو لم يوافق على المواضيع الصحفية المطروحة خلال الدوام.

في هذه اللحظات الأخيرة، خاصة إذا كنت قد قدمت عملًا جيدًا يُرضيه، يمكنك أن تطلب منه أي شيء، فقد كان إنسانًا إلى أبعد الحدود مع فريقه الصحفي، يساعد بسخاء وكرم. وإن حاولت أن تغالطه أو تستميله بضحكات أو مدح يستقطب رضاه، فإنه يمد يد المساعدة بلا تأخر، لكنه لا يترك الأمر يمر دون تعليق، حيث كان يقول ضاحكًا “هنيئًا لك، لقد نجحت في ترويضي رغم أنني أعلم أنك كاذب أيها الكاذب،” ثم ينهي المحادثة بضحكة جميلة أو مزحة لطيفة.

ليس من قبيل الإطراء المعتاد أن نعدد الآن خصال الدكتور هيثم وهو بين يدي خالقه، لكنها الحقيقة؛ فقد كان رجلًا يمتلك قدرًا كبيرًا من الذكاء الحاد في كل المجالات تقريبًا، حتى أنه كان يفهمك أحيانًا قبل أن تنطق بكلمة.

اختلف الدكتور هيثم مع الكثير من الصحافيين الذين غادروا الصحيفة، ومنهم أنا شخصيًا، لكن بقدرته الفريدة على التواصل كان يجبر كل من يغادره على احترامه، بحيث لا يقدر حتى على التحدث عنه بسوء، بل على العكس، يجعلك تقول في نفسك “لقد غلبني هذا الرجل بلطفه.”

ربما لم يحظَ الكثير ممن عملوا في “العرب” بفرصة لقاء الدكتور هيثم خارج أوقات العمل، لذلك ظلت هناك دائمًا مسافة فاصلة بينهم، لكن فرصة اللقاء به في مكان بعيد عن الصحافة والأوراق والعناوين والتدقيق والتنفيذ، تمنحك فرصة التعرف عن قرب على رجل متواضع جدًا، يبدأ حديثه معك قائلًا “استرح وتحدث بما تشاء، نحن الآن أصدقاء.”

هذه اللقاءات كانت بالنسبة إلي شخصيًا فرصة لمعرفة جانب آخر من شخصيته، إذ بدا أمامي مدرسة خاصة في الصحافة، قادرة على التعامل مع كل الملفات، وقادرة حتى على صياغة استنتاجات مغايرة تمامًا لما تسمعه في الإعلام أو تقرأه في الصحف العربية والدولية.

دكتور هيثم، الآن أتفهم لماذا يبكيك الزملاء في “العرب” وخارجها. هم لا يبكونك فقط لأنك رحلت، بل لأنك تركتهم وحدهم. إنهم يبكون أنفسهم لأنهم فقدوا زميلًا متقد الطموح، وصديقًا كبيرًا، عرف كيف يُرغم حتى “صاحبة الجلالة” بذاتها على الانحناء أمام روعة قلمه وسرعة بديهته.

أحدثك الآن، دكتور هيثم، وأنا أعلم أن الموت لم يأتِ بعد، لكن الحياة لم تعد كما كانت منذ لحظة فقدك. للموت جلاله أيها الراحل، ولنا بعدك انتظار في محطات قد تطول أو تقصر، قد ترهق أو تصفو، قد تُضحك أو تبكي… حتى يأتي الموت بلا تردد، ليختارنا واحدًا تلو الآخر.

وداعًا دكتور هيثم، وداعًا أيها الصادق والهادئ والدافئ، والقاسي أحيانًا في أوقات العمل. سأخبرك، صديقي هيثم، آخر شيء: “كل شيء في الدنيا تعب، إلا الموت فهو نهاية كل تعب، فلك الآن الراحة والطمأنينة والسكينة.”

إقرأ أيضا:

7