أقلام مأجورة
في سنوات استقلال الأقطار العربية من الاستعمار الأجنبي، وبعد موجة المد القومي العربي، كان ثمة إيمان قوي بجدوى الأدب، وتبجيل لصفة الكاتب، وخشية منه في الآن ذاته. كانت القصيدة والرواية والمسرحية والمقال، إما مع الزعيم أو ضده، تنشر إما لنصرة قائد الأمة أو للإطاحة به، كانت الكتابة تصنع أمجادها بتلقين دروس في القيم، ضد “الأجر” و”الأجرة”، لصناعة السياسة والخريطة والتاريخ والمستقبل. بات المتنبي والبحتري وأبونواس، وقبلهم حسان بن ثابت وامرؤ القيس، مجرّد بائعي كلام عند عتبات القصور، وسرعان ما انتشر نعت مزر بقيمة الكتابة هو: “القلم المأجور”.
من يكتب ضدّ الزعيم، هو قلم مأجور وعميل في اعتقاد المخابرات ولدى جرائد السلطة، ومن يكتب في مديحه “مأجور” وخائن في أدبيات المعارضة وفي منشورات المعتقلين السياسيين، ولدى تاريخ الأدب غير الرسمي، ومن يكتب للناس وللحياة له أجر، ومن يكتب ابتغاء مرضاة الله له أجران، أجر النية البريئة، وأجر الجماعة إياها.
في فقرة من رواية “بيروت بيروت” لصنع الله إبراهيم، كان البطل المصري مشغولا بتدبير معيشته اليومية، عند حلوله بالمدينة المنتهكة بالحرب الأهلية، نصحه أحد رفاقه بكتابة مقالات أو قصص لمنابر صحفية مقابل “أجر”، لكنه لم يستسغ الاقتراح، وهو النازل في أرض المقاومة، فقال له صاحبه ببساطة “الكل يقبض هنا”؛ كانت اللقطة الروائية كاشفة ومضيئة في زمن طغت عليه الطهرانية، وبات نعت “القلم المأجور” مقدمة للإعدام المادي والمعنوي، تهمة وإدانة في الآن ذاته، تنفي الحس الإبداعي وتصل الكتابة بالسرقة الموصوفة.
لكن عزيزي القارئ لنتأمل معا معنى “القلم المأجور”، ففي النهاية يجب أن يكون الكاتب إما صاحب أجر أو أجرة، قد يكون أجر الكاتب عند الله وهو ما قد يرتجيه كل من لا حيلة له في تحصيل مقابل لعمله، من يكتب ويدّخر مالا يقتطعه من قوت يومه ورزق عياله لتدبير نفقات مطبعة، تهديه بعد أن يكتب ويصفف ويرسم الغلاف هو شخصيا، بضع مئات من النسخ، يحشرها في صندوق “طاكسي” صغير لنقلها إلى منزله، ثم يتوكل على الله في تحصيل الأجر، كل يوم برزقه، وقد تكون الأجرة جائزة مجزية، لن تكون نوبل بالتأكيد لأننا نتحدث في سياق عربي حافل بالبذاءات، بل جائزة من تلك التي تبدو في السياق العربي كاليانصيب، لها مدمنون وملاعين حذقوا الحرفة، وصاروا كأيّ مراهن في طاولة قمار.
لكن مع ذلك يجب أن تطمئن عزيزي القارئ، ثمة في النهاية كاتب حقيقي وكاتب فقط، ممن يجب أن يكتب بأجر، أجر مستحق، قد تؤدّيه دولة أو حزب أو اتحاد أو مجرّد ناشر، هو ليس لا بالعميل ولا بالخائن، هو كاتب بحق ينتج بضاعة لها سوق.
كاتب من المغرب