أفغانستان: نهاية حرب وبداية أخرى

المفاوضات الأخيرة بين واشنطن وطالبان تأتي في ظل إدراك الإدارات الأميركية المتعاقبة أن الانسحاب القائم على هزيمة حركة طالبان غير ممكن، وأن المزيد من المراهنة على ذلك الخيار التقليدي سوف يكون مضيعة للأموال وللأرواح.
السبت 2019/02/02
الانسحاب القائم على هزيمة حركة طالبان غير ممكن

يبدو أن أطول حرب في تاريخ الولايات المتحدة، والتي بدأت عام 2001 بغزو أفغانستان، تقترب من نهايتها بعد تقدم كبير شهدته جولة المفاوضات الأخيرة بين الجانب الأميركي وحركة طالبان. لماذا تأخر الاتفاق كل هذا الوقت؟ وما الذي سمح بإنجازه اليوم؟

خلال الأعوام السبعة عشر الماضية التي تلت الغزو الأميركي، راهنت الولايات المتحدة على إمكانية إنشاء حكومة أفغانية قوية وقادرة على حماية البلاد، وهو ما كان ليمكنها من الانسحاب وإعلان “نهاية سعيدة” لقصة الغزو الأميركي. ولكن شروط تحقيق تلك النهاية السعيدة، أو “النصر”، لم تكن بالسهولة التي توقعتها واشنطن.

لقد تركزت الاستراتيجية الأميركية على برنامج تأهيل الحكومة الأفغانية، فاستثمرت أموالاً هائلة وخبرات كثيرة في دعمها وخصوصاً على مستوى النفقات الأمنية والدفاعية وتدريب القوات المسلحة وأجهزة الأمن.

نمت قدرات الحكومة الأفغانية بصورة تدريجية وهو ما كان يعزز أمل القيادة الأميركية بالوصول إلى مرحلة يمكن معها قطع الحبل السري وانسحاب الجيش الأميركي. لكن ذلك لم يتحقق إذ كان التطور في قدرات الحكومة الأفغانية عائدا إلى بدايتها من نقطة متدنية جداً تقارب الصفر بعد تشكلها في أعقاب الغزو الأميركي.

وقد أخفى التطور الذي بدا سريعاً العيوب البنيوية التي تمنع تحولها إلى حكومة مركزية قوية وغير معتمدة على دعم الولايات المتحدة. تمثل أحد أهم تلك العيوب بالعامل الاقتصادي، وتحديداً بغياب الموارد الذاتية الكافية لتمويل الإنفاق العام الذي يحافظ على الاستقرار الاجتماعي، والإنفاق على الأمن والجيش. الأخير بصورة خاصة بقي طيلة السنوات الماضية عبئا كبيراً على الولايات المتحدة التي اضطلعت بنحو 90 بالمئة من ميزانية الأمن والدفاع.

بالتوازي مع تواضع القدرات الاقتصادية والأمنية للحكومة الأفغانية، تطورت القدرات العسكرية لحركة طالبان التي تحوّلت إلى حرب العصابات مستفيدة من الطبيعة الوعرة للبلاد ومن الدعم الذي حظيت به من قبل باكستان وإيران وروسيا.

ومع تزايد قوة طالبان عاماً بعد الآخر واتضاح الضعف المزمن الذي يعصف بالحكومة، بدأت الحركة تراهن على إمكانية الظفر بحكم البلاد بصورة منفردة بعد أن تفقد الولايات المتحدة الأمل بالحكومة الأفغانية وتنسحب من البلاد. هكذا رفضت طالبان التفاوض مع الحكومة الأفغانية معتبرة إياها مجرد دمية بيدي الاحتلال الأميركي.

وخلال السنوات الأربع الماضية التي شهدت تكثيف التفاوض الأميركي غير المباشر مع الحركة، أبدت طالبان تصلبا في مواقفها وهو ما أفشل جولات التفاوض العديدة التي جرت.

ومع مضي السنوات ازدادت الضغوط على الإدارة الأميركية بعد أن فشلت جميع محاولاتها بالانسحاب. فقد انتخب الرئيس السابق باراك أوباما بناء على وعد انتخابي بإنهاء حروب الولايات المتحدة في الخارج. ولم يكد أوباما يبدأ بتنفيذ وعده بعد نحو عامين على توليه الرئاسة حتى تزايدت هجمات طالبان محدثة خسائر فادحة بقوات الحكومة الأفغانية. وبدا أن النتيجة المباشرة للانسحاب الأميركي سوف تكون انهيار الحكومة الأفغانية وعودة طالبان للحكم.

تكررت ذات المشكلة مع دونالد ترامب الذي بنا خطابه السياسي على وعود الانسحاب العسكري من أفغانستان والتركيز على الداخل الأميركي. لكنه أدرك بسرعة أن الحديث عن الانسحاب العسكري شيء وتنفيذه شيء آخر. إذ بعد عامين من توليه السلطة، ارتفع عدد الجنود الأميركيين في أفغانستان من 8 آلاف جندي إلى نحو 14 ألف جندي، وتزايدت معها النفقات العسكرية والتكاليف البشرية.

تأتي المفاوضات الأخيرة بين واشنطن وطالبان في ظل تلك المعطيات وبعد إدراك الإدارات الأميركية المتعاقبة أن الانسحاب القائم على هزيمة حركة طالبان غير ممكن، وأن مزيداً من المراهنة على ذلك الخيار التقليدي سوف يكون مضيعة للأموال وللأرواح.

اتضح لواشنطن أن طالبان، التي تصنفها كحركة إرهابية، هي مجموعة محلية متجذّرة في بيئات شعبية أفغانية وتحصل على دعم مالي وعسكري كبيرين، ما يجعلها لاعباً محلياً صلباً من غير الممكن عدم التفاوض معه من أجل الانسحاب.

هكذا، عرضت الولايات المتحدة على طالبان الاعتراف بها والمشاركة بالسلطة، مقابل وقف عملياتها القتالية والتعهد بعدم السماح لتنظيم القاعدة وأي مجموعات جهادية باستخدام أفغانستان قاعدة لشن هجمات على الولايات المتحدة وحلفائها.

هل نشهد الفصول الأخيرة لحرب أفغانستان وبداية مرحلة السلام؟ ليس تماماً. ورغم أننا قد نكون أمام نهاية الحرب الأميركية في أفغانستان، فإن السلام لن يحل على هذا البلد بالضرورة. فبعد انسحاب الجيش الأميركي، لن يكون هنالك أي عائق أمام حركة طالبان لمتابعة طريقها نحو الهيمنة المنفردة على الحكم. طريق يفتح فصلاً جديداً من فصول الحرب الأهلية.

9