أعقد من فورة شعارات سياسية

الثلاثاء 2017/12/19
الأسباب الاقتصادية أولا وقبل كل شيء

يلخص انعدام المرونة والقدرة على التأقلم مع التحولات المتسارعة النظام الاقتصادي العالمي، جوهر الاحتقان الكبير الذي أدى إلى تفجر الثورات العربية قبل سبع سنوات.

لكن يبدو أن الدول التي نجت من أخطر تداعياتها لا تزال تجد صعوبة في التعامل مع الأسباب التي فجرت تلك الثورات، فيما بدأ بعضها متأخرا في علاجها بعد أن تفاقمت الأوجاع ولم يعد ينفع معها سوى العلاجات القاسية، التي قد لا يستطيع اقتصادها العليل تحمل الدواء المر.

ينبغي أن نذكر بأن ظاهرة صعوبة التأقلم مع التحولات الاقتصادية المتسارعة، لا تقتصر على البلدان العربية، فقد أدت إلى أزمة مالية عالمية عام 2008 ومازالت تفرض تحديات كبيرة على جميع دول العالم.

وقد تباينت ردود فعل الدول في التعامل مع أسباب تلك الأزمة، وكانت الدول العربية من أقل دول العالم استجابة للتحديات الجديدة، مع استثناءات قليلة تمكنت من زيادة المرونة في التعامل مع التحديات الاقتصادية.

قبل عقدين تقريبا كانت معظم دول العالم تتمتع بسيادة تامة على اقتصاداتها، ولم تكن التجارة الخارجية تشكل سوى نسبة ضئيلة من حجم النشاط الاقتصادي، وكانت تتمتع بمصدات متينة تحجب التأثيرات الخارجية.

لكن ثورة التجارة العالمية وسهولة حركة الأموال والاستثمارات زادت الحاجة إلى المرونة وسرعة التأقلم مع ما يحدث في العالم، بعد أن أصبحت أبواب الدول مفتوحة على رياح التقلبات العالمية.

السعودية تبدو اليوم أكثر الدول المندفعة بحماس كبير للقيام بثورة إصلاحات شاملة. وقد اتخذت الكثير من القرارات الكبيرة، التي تنتظر ترجمتها على أرض الواقع

في الدول العربية غير النفطية كان المغرب الاستثناء الوحيد، حيث أظهر مرونة كبيرة في تعزيز مناخ الاستثمار والشفافية منذ ما قبل الأزمة المالية العالمية، ووضع تشريعات وقوانين واضحة لطمأنة المستثمرين، ما جعله قبلة للكثير من الاستثمارات في قطاعات السياحة وصناعات السيارات والطيران.

أما مصر فقد تأخرت كثيرا في تحريك المفاصل البالية لهيكل الاقتصاد إلى أن استفحلت الأمراض وأصبحت قاب قوسين من انهيار اقتصادي شامل. حينها بدأت بإجراء إصلاحات قاسية يؤيدها الخبراء والمؤسسات الدولية لكنها ستكون قاسية على المصريين قبل أن يبدأوا بجني ثمارها.

وفي تونس بعد الثورة كان الوضع مشابها ودخلت البلاد في شلل اقتصادي وارتباك واسع في السياسات الاقتصادية على مدى 5 سنوات من عمر الحكومات التي قادتها حركة النهضة. وقد بدأت متأخرة منذ نحو عامين بإجراء إصلاحات اقتصادية، لكن الحكومة لا تملك رصيدا سياسيا في مواجهة السخط الشعبي والقوة المفرطة لنقابات العمال، التي تعرقل جهود الحكومة.

ولا تزال الجزائر تتخبط في مستنقع الشعارات السياسية والوعود الكبيرة الضائعة في متاهات البيروقراطية وارتباك السياسات الحكومية، رغم الخطر المحدق بمستقبل البلاد بسبب تراجع عوائد الصادرات النفطية، التي لم تعد تغطي فاتورة الواردات.

أما بين الدول الخليجية فقد كانت الإمارات الاستثناء الوحيد، حيث أظهرت مرونة تفوق الكثير من الاقتصادات المتقدمة في تعزيز شفافية مناخ الاستثمار وتنويع الاقتصاد وبنائه على أسس مستدامة.

وفي تلك الأثناء واصلت الدول الخليجية الأخرى استنادها إلى ريع الصادرات النفطية في فترة طفرة الأسعار. وواصلت ذلك لمدة عامين حتى بعد انهيار الأسعار، إلى أن وجدت نفسها مضطرة لمراجعة السياسة الاقتصادية لتقليل الاعتماد على النفط.

وتبدو السعودية اليوم أكثر الدول المندفعة بحماس كبير للقيام بثورة إصلاحات شاملة. وقد اتخذت الكثير من القرارات الكبيرة، التي تنتظر ترجمتها على أرض الواقع.

قد يبدو غريبا القول إن تحقيق المعجزات الاقتصادية في غاية السهولة، لكنها حقيقة ماثلة في جميع أنحاء العالم. وقد حدثت في العشرات من دول العالم الثالث، وهي تحدث اليوم في عدد من البلدان الأفريقية والآسيوية.

مفتاح ذلك هو الإرادة السياسية والاستقرار والشفافية وسيادة القانون ووضع تشريعات معاصرة وواضحة لممارسة النشاط الاقتصادي لطمأنة المستثمرين على مستقبل أموالهم.

هناك المئات من تريليونات الدولارات، التي تبحث عن فرص في الاقتصادات النامية لتحقق أرباحا تفوق كثيرا ما يمكن تحقيقه في الدول المتقدمة التي تقتل المنافسة فيها هامش الربح بسبب فائض رؤوس الأموال المتنافسة.

الأمر لا يحتاج أكثر كم طمأنة رؤوس الأموال إلى الاستقرار السياسي والاقتصادي في أي بلد من البلدان النامية، حتى تتدفق إليه بحثا عن فرص نمو لا يمكن مقارنتها بمثيلاتها في الدول المتقدمة. جميع الدول العربية يمكن أن تحقق معجزات اقتصادية وتعالج جميع أسباب الثورات إذا وفرت تلك المقومات وبدأت الانتماء إلى روح العصر.

12