أساليب تجنيد داعش البديلة.. السر في هجوم مسقط

ينظر إلى سلطنة عمان التي ينتمي سكانها إلى المذاهب السنية والشيعية والإباضية، على أنها إحدى أكثر دول المنطقة انفتاحا واعتدالا في السياسة والدين والمجتمع. لكن هجوم داعش الأخير على مسجد للشيعة يعيد خلط الأوراق، ما يستوجب ديناميكيات أمنية ومجتمعية جديدة.
القاهرة - طُرحت الكثير من التساؤلات بعد الهجوم الصادم الذي جرى تنفيذه أثناء إحياء مراسم عاشوراء السنوية بمسجد للشيعة في سلطنة عمان، في وقت شهدت فيه دول الخليج استقرارًا أمنيا ملحوظًا، وتتميز غالبيتها بتعزز قيم التسامح والتعايش المذهبي والعقائدي.
وبعد أن أعلن تنظيم داعش الإرهابي مسؤوليته عن الهجوم المفاجئ والنادر بدولة تُوصف بأنها الأكثر استقرارًا وحيادية، بدأت التوقعات تتوالى حول إمكانية تكرار هذا النوع من العمليات في منطقة تلفظ التوجهات المتطرفة وتحاربها باستمرار، وبذلت بعض دولها جهودا كبيرة لإبعاد الإرهاب عنها بعد أن طال مناطق كثيرة في العالم.
وجاء في بيان داعش “المقاتلون فتحوا النار على الشيعة ثم اشتبكوا مع القوات العمانية التي وصلت إلى المكان واستمرت الاشتباكات حتى صباح يوم الأربعاء”، وبدا البيان غريبًا ومفاجئًا بشأن طبيعة وتاريخ الساحة المُستهدفة، لكنه متسق مع نمو التنظيم وتصاعد حضوره بأماكن متفرقة في العالم، وكشف عن إستراتيجية داعش الدعائية والتجنيدية البديلة.
◙ وصول داعش إلى ساحات خليجية كانت بمنأى عن دائرة الاستهداف يوسع دوائر استقطاب التنظيم وعمليات التجنيد
وتتأسس هذه الإستراتيجية على أهمية تعويض النقص في القوى البشرية وتجنيد المزيد من العناصر، وتعتمد على إسناد الدعاية البديلة بوصف التنظيم مناهضا لنفوذ وتمدد مشروع إيران ولخطر الشيعة في عمق الفضاء العربي والفضاء الإسلامي بنشاط عملياتي مكثف عبر الاتجاه إلى ساحات مستقرة، يعمل على أن تكون عكس ذلك بالنظر إلى وجود تنوع مذهبي بين سكانها.
ويركز داعش على الدعاية الطائفية المناهضة للشيعة وإيران ليتجاوز مسألة انهيار مشروعه الرئيسي (الخلافة) وكان مادة دعايته المحورية، ما انعكس على المبالغة في التوظيف الدعائي لهجوم مسجد مسقط. واحتفل أنصار التنظيم والموالون له على شبكات التواصل الاجتماعي بالهجوم الغادر في سلطنة عمان، وأعربوا عن فرحتهم الشديدة، ونشروا تعليقات مسيئة لإيران والطائفة الشيعية، وأشادوا بالمهاجمين الذين انتقموا من الشيعة “المرتدين”.
وبدأ التنظيم يتحلى بمرونة حيال عمليات التجنيد والاستقطاب، ففي السابق كان يشترط محددات صارمة تتعلق بمستويات اعتقاد ومعارف الشخص الذي تتم الموافقة على تجنيده لقبول بيعته، والآن يُبدي تساهلًا في شروط البيعة ومواصفات المبايعين الجدد، حتى لو تعلق الأمر بخلية صغيرة مبتدئة مصيرها مجهول ولا تحظى بحاضنة مجتمعية.
ويعتمد داعش، الذي يستهدف بشكل متكرر تجمعات ومواكب الشيعة في دول مثل باكستان والعراق وأفغانستان، في دعايته على عدائه للشيعة ومنافسة مشروعه للمشروع الإيراني المذهبي التوسعي، ويصف المسلمين من الطائفة الشيعية بـ”المرتدين” بجانب دعايته المتعلقة بعدائه للغرب.
ويريد التنظيم الإرهابي أن يجعل من عدائه للشيعة في المنطقة، بعد تنامي نفوذ وحضور الميليشيات الشيعية المسلحة في عدد من الساحات العربية عقب عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر الماضي، مصدر جذب وعامل تجنيد واستقطاب يحظى بأكبر قدر من الاهتمام والإسناد العملياتي، خاصة أنه يعاني من تراجع ملحوظ في دعايته الرئيسية بعد سقوط دولته المزعومة وتراجع هيمنته المكانية بذريعة أنه يمثل دولة خلافة إسلامية.
وعكس الهجوم الذي نُفذ في دولة معروفة بهدوئها واستقرارها الأمني والسياسي والاقتصادي والمجتمعي، تطورًا في سياسات تنظيم داعش المعروف أنه يضرب ويهاجم من خلال جيوبه وخلاياه النائمة في المناطق المضطربة وغير المستقرة، سواء في أفغانستان أو سوريا أو العراق، وبعض الدول في أفريقيا، مثل الصومال أو الساحل الغربي للقارة.
وأكد هجوم مسجد مسقط أن التنظيم لن يتوانى عن استهداف مناطق مستقرة، ولن يكتفي بالوصول إلى الأماكن الرخوة، من أجل جرها إلى حالة صراعية جديدة، ومحاولة خلق نوازع لاضطرابات وتوترات طائفية، كبيئة مناسبة لنموه وتمدده وخلق ملاذات لخلاياه وتشكيلاته المفترضة. ويحمل هذا التطور تحذيرًا مؤداه وجود فرضية بشأن تجنيد داعش لخلايا داخل عدد من الساحات المستقرة أمنيًا وسياسيًا وأنه يخطط لإيجاد موطئ قدم له فيها، مثل بعض دول الخليج، وهو ما يمثل تطورا في معادلاته.
ويُوفر التواجد والتوتر مدخلا مناسبا لإثارة فتنة مذهبية في بعض دول الخليج، حيث تتواجد أقليات شيعية، تعد تركيبة مثالية للتنظيم الإرهابي لبدء نشاط من منطلق طائفي تصارعي، كبديل عن الوجود المذهبي السلمي الذي يميز العلاقة بين المواطنين الشيعة ودولهم ومجتمعاتهم الخليجية، خاصة أن هناك علاقة جدية تربط بين غالبية المواطنين الشيعة والأجهزة الأمنية الخليجية،انعكست على مرور مواسم عاشوراء السنوات الماضية بسلام.
ويوسع وصول داعش بعملياته التي تحمل نزعات طائفية إلى ساحات خليجية كانت بمنأى عن دائرة الاستهداف دوائر استقطاب التنظيم وعمليات التجنيد من خلال آلته الدعائية ويزيد من مستوى التفاعل مع طروحات التنظيم على مواقع التواصل الاجتماعي، ويصب ذلك كله في مصلحة داعش من جهة إتاحة المزيد من الفرص التجنيدية.
ويبحث تنظيم داعش عن بيئات غير تقليدية هي في الأصل متماسكة آمنة وهادئة ومستقرة ليفتعل فيها صراعًا طائفيًا يجعلها قابلة لاحتضانه ونموه، وعلى المدى البعيد يطمح للاستثمار في خلق حالة طائفية متصارعة من لا شيء وإيجاد موطئ قدم له في الفضاء الخليجي المستقر، بوصفه المناهض للشيعة ومشروع إيران في عمق الفضاء السني، وتُعد هذه هي الدعاية الرئيسية له حاليًا بعدما خفت تأثير دعايته بشأن إقامته دولة خلافة عالمية.
ويحاول داعش استغلال المتغيرات في المنطقة منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وما جلبته من تغييرات للأوضاع في اليمن وشن الحوثيين هجمات في البحر الأحمر، عبر التدخل العسكري للتأثير على التوازنات المذهبية المحلية والدفع باتجاه المزايدة على مواقف الدول الوازنة وأساليب تعاطيها مع الملفات الإقليمية، علاوة على الدفع نحو اعتبار حالة التنوع المذهبي الداخلي حالة تصارعية بدلًا من أن تظل معززة للسلم الاجتماعي والتعايش الإنساني والعقدي.
ويريد تنظيم داعش في المقام الأول أن يثبت عكس ما يُروج حاليًا بأن أجهزة الاستخبارات حول العالم أقوى منه، وأن الكثير من الحكومات قد نجحت في تقويض هياكله وتفكيك شبكاته. وبعثت هجمات التنظيم الأخيرة رسائل ذات بعد إقليمي ودولي تفيد بأنه لم يفشل تمامًا ولا يزال يشكل تهديدًا للأمن الإقليمي، كما أنه من خلال التوسع وطرق ساحات بعيدة وغير تقليدية ينفي صحة تقارير غربية قالت إن خطره العابر للحدود انتهى وأصبح فقط يشكل تهديدًا محليًا محدودًا.
ويستعيد تنظيم داعش عافيته بسرعة متزايدة ويغري العناصر المستهدفة للتجنيد بما يمتلكه من أموال وثروة، إذ تمكن من تحقيق إيرادات بقيمة ملياري دولار سنويًا من الجمعيات الخيرية والتبرعات، فضلًا عن عوائد التجارة غير المشروعة، كما أنه يحرص على الإيحاء بأنه يتمتع بتمثيل إقليمي واسع من خلال نشاط الخلايا التابعة له.