أزمة هجرة الأطباء تؤرق مصر

تشهد مصر نسبة هجرة مرتفعة في صفوف الأطباء في السنوات الأخيرة، لعوامل متداخلة من بينها الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الضاغطة وغياب التقدير وسوء المعاملة أحيانا، فضلا عن الإغراءات التي تقدمها الدول الجاذبة سواء في الخليج أو الغرب، وهذا ما يدفع السلطة المصرية إلى وقفة مراجعة لتدارك هذا الوضع الذي بات يمثل مشكلة حقيقية.
القاهرة – تشكل أزمات هجرة الأطباء هاجسا يؤرق بعض الحكومات العربية في ظل مغريات عديدة تقدمها بعض الدول الغربية الراغبة في استقطاب العاملين في المجال الطبي لأسباب تتعلق بعزوف البعض من أبنائها عن الانضمام إليه، ومواجهة التحديات الصحية التي فرضها فايروس كورونا وما ترتب عليه من تداعيات جعلت هناك حاجة للبحث عن كفاءات جديدة يمكن قبولها من دول عربية وآسيوية.
وتجد بعض الحكومات العربية نفسها أمام مأزق يتعلق بكيفية التعامل مع الوضع القائم لأن قدرتها المادية لا تضاهي ما تقدمه الدول المتقدمة من مزايا متعددة، ولا تستطيع أن تقف أمام التطور العلمي والتكنولوجي الذي يبحث عنه الكثير من الأطباء.
وتعد مصر من أكثر الدول التي تعاني مشكلة بسبب تزايد هجرة الأطباء، فأرقام وزارة الصحة المصرية تشير إلى أن هناك 213 ألف طبيب مسجلون لديها كممارسين للمهنة لكن نسبة من يعملون بالفعل داخل مستشفياتها الحكومية لا يتجاوزون 82 ألف طبيب أي أن 60 في المئة من الأطباء هاجروا إلى الخارج أو يمارسون المهنة في القطاع الخاص أو عزفوا عن ممارستها أصلا في السنوات الماضية.
خالد سمير: الأطباء يعانون من قلة التقدير واستمرار الاعتداءات
ودفعت النسب المتردية في القطاع الصحي عموما الكثير من الأطباء الذين لديهم تواصل مع وسائل الإعلام إلى التحذير والتعبير عن مخاوفهم من وقوع كوارث صحية جراء استمرار نزيف الهجرات التي تتصاعد في وقت تحتاج فيه المؤسسات الصحية المصرية إلى أعداد أكبر من الأطباء وطواقم التمريض، وتوالت مطالبات دوائر طبية قريبة من الحكومة بالتدخل للتعامل مع الوضع الراهن.
ولعل ذلك أدى بالحكومة المصرية إلى تقديم مشروع قانون للبرلمان يتعلق بإنشاء ما يسمى بـ”المجلس الصحي المصري”، تكون تبعيته لرئيس الجمهورية، ويهدف إلى تنظيم مجالات الصحة ورفع المستوى العلمي والتطبيقي للأطباء ومساعديهم، وضمن اختصاصاته رسم السياسات العامة التي تضمن سلامة الممارسات الصحية وتحقيق أعلى درجة الأمان المرضي بالتنسيق مع المستشفيات التابعة للجامعات، وإدارة الخدمات الطبية بالقوات المسلحة المصرية.
ويشكل القانون الذي وافقت عليه لجنة الصحة بالبرلمان أخيرا ومن المقرر مناقشته في الجلسة العامة بعد أيام قليلة لإقراره نهائيا، محاولة جديدة من جانب أجهزة الدولة لإعادة تقييم أوضاع الأطباء المهنية والمادية والتعرف على طبيعة الأوضاع الصحية في المستشفيات ومخاطر العجز الصارخ في أعداد الأطباء في الأقسام الحرجة، مثل التخدير والعناية المركزة.
ويتفق البعض من الأطباء على أن هناك أزمات اقتصادية واجتماعية تضاعف من أعداد الهجرات إلى الخارج، فالعلاقة بين نقابة الأطباء التي تدافع عن حقوق أعضائها وبين وزارة الصحة التي تتبنى سياسات الحكومة تشهد توترات لأسباب مختلفة.
وتشكو نقابة الأطباء من عدم توفير الحماية اللازمة لأعضائها داخل المستشفيات الحكومية، وغذت أزمة اعتداء أحد أمناء الشرطة على بعض أطباء مستشفى المطرية (شرق القاهرة) هذا التوتر، بجانب المطالبات المتكررة بزيادة رواتب الأطباء تحديدا حديثي التخرج والتي تصل إلى 200 دولار فقط، ولم يحقق قرار الرئيس عبدالفتاح السيسي بزيادة بدل المهن الطبية بنسبة 75 في المئة مردودا إيجابيا لدى الأطباء.
عمرو هاشم ربيع: الحكومة لم تدافع عن الأطباء كشريحة لها قيمتها داخل المجتمع
وقال عضو مجلس نقابة الأطباء سابقا خالد سمير إن الحكومة لديها من الإمكانيات المادية ما يجعلها قادرة على تحسين أوضاع الأطباء على نحو أفضل مما هو حاصل وبما يقلل من فرص هجرة البعض إلى الخارج.
وأوضح لـ”العرب” أن عددا من الأطباء لا ينظرون إلى المشكلات المادية كسبب رئيسي للشكوى بقدر معاناتهم من قلة التقدير الذي يلقونه مع استمرار الاعتداءات ومعاملتهم على الأخطاء المهنية المرتكبة كجريمة جنائية ينص عليها قانون العقوبات.
وتزايدت وتيرة الجدل بين نقابة الأطباء ومجلس النواب على خلفية قانون “المسؤولية الطبية” الذي تقدم به أحد النواب ورفضته النقابة، وينص على تشكيل لجنة مستقلة للتحقيق في حوادث أخطاء الأطباء، وهو ما اعتبرته النقابة تعديا على دورها وطالبت بأن يكون ذلك ضمن مسؤوليتها، وتقدمت بمشروع آخر لم يتم التطرق إليه حتى الآن.
وأضاف سمير وهو نائب رئيس حزب المحافظين (معارض) في تصريح لـ”العرب”، أن هناك تدخلات إعلامية مرفوضة من الأطباء تؤدي لزيادة الكراهية ضدهم من خلال تحميلهم مسؤولية كل خطأ غير مقصود، وثمة قناعة لدى قطاعات واسعة من الأطباء بأن وسائل الإعلام تخضع لتوجيهات حكومية وتقود الهجوم على الأطباء لصالحهم، بينما ميزانية وزارة الصحة لا تكفي لعلاج عشرة ملايين مواطن وليس 100 مليون، وتوجد مشكلات عدة في التأمين الصحي الشامل الذي بدأ تطبيقه مؤخرا.
ولا تتمثل فقط في هجرة الأطباء بقدر ارتباطها بجذب بعض الدول الخليجية والأوروبية للكفاءات وأن الفئات المهاجرة تعد الأكثر خبرة في مجالاتها، وهو ما ستكون له انعكاسات على جودة الطب المصري بوجه عام.
وبدلا من أن تقدم الحكومة خدماتها لإثناء البعض عن الهجرة دفعت باتجاه زيادة أعداد المقبولين في كليات الطب، وبدا أنها غير مهتمة بمناقشة الأسباب التي تدفع للهجرة، ما بعث بإشارات سلبية للأطباء على أن المناخ العام لن يكون في صالحهم.
ولدى قطاعات واسعة من الأطباء قناعة بأن الحكومة تولي اهتماماتها بالمشروعات الإنشائية على حساب قطاعي الصحة والتعليم، وأن توجيه قدرات الدولة نحو تحسين جودة الخدمات العامة المقدمة للمواطنين يمكن أن يقنع البعض بأن هناك خطوات ملموسة تدعم إحداث التطور على مستوى وضعهم الاجتماعي مستقبلا.
وأخفقت الحكومة في التعامل مع مشكلات الأطباء بحنكة، وبدلا من أن تقدم الدعم المعنوي الذي كانوا بحاجة إليه مع تفشي جائحة كورونا ذهبت أحيانا باتجاه التلميح بتحميل بعضهم مسؤولية ارتفاع الوفيات في ذروة انتشار الفايروس.
اقرأ أيضا: الأطباء الشبان في تونس يكافحون للبقاء
وقال رئيس الحكومة مصطفى مدبولي “صراحة إن عدم انتظام بعض الأطباء بالمستشفيات الرسمية كان سببا في زيادة عدد الوفيات بكورونا، وحدث تغيب من بعض الأطباء، وعدم انتظام الأطقم الطبية في أداء عملها”.
وهو ما ردت عليه نقابة الأطباء بتأكيدها على أن رئيس الحكومة “تجاهل الأسباب الحقيقية للوفيات من عجز الإمكانيات وقلة المستلزمات الطبية والعجز الشديد في أسرّة الرعاية المركزة”، وهي الأسباب التي ترى نقابة الأطباء أنها تتسبب في ارتفاع أعداد الوفيات في البلاد جراء انتشار الإصابة بفايروس كورونا.
وأكد الخبير بمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية عمرو هاشم ربيع أن الأزمة سوف تظل مستمرة بين الحكومة ونقابة الأطباء طالما استمر التجريف الحالي الذي انعكس على أوضاع المؤسسات الصحية، لأنه كلما وقع خطأ سيحاول كل طرف التملص منه، وبالتالي فإننا سنكون أمام معضلة التوسع في محاسبة الأطباء بينما هناك أوضاع تتحملها الحكومة تفسر السبب الرئيسي لحدوث التقصير أو الخطأ.
وذكر في تصريح لـ”العرب” أن الحكومة لم تقم بأدوارها المرتبطة بتحسين الأوضاع المادية للأطباء ولم تدافع عنهم كشريحة لها قيمتها العلمية والمهنية داخل المجتمع، ما يتطلب حدوث تغيير كبير في سياسة التعامل مع المنظومة الصحية والعاملين فيها، كي توقف نزيف الهجرة الذي يمكن أن يؤدي إلى كارثة في القطاع الطبي لاحقا.