أزمة تفتيش المنشآت العسكرية الإيرانية حلقة مفرغة من التصعيد

رفضت إيران طلبا أميركيا بزيارة مفتشي الأمم المتحدة لقواعدها العسكرية، ووصفته بأنه “مجرد حلم” في الوقت الذي تراجع فيه واشنطن الاتفاق النووي الذي أبرم عام 2015 بين طهران وست قوى عالمية منها الولايات المتحدة.
ووجهت طهران انتقادات قوية للزيارة التي قامت بها نيكي هايلي، المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة، إلى الوكالة في 23 أغسطس 2017، والتي أشارت فيها إلى ضرورة إجراء عمليات تفتيش صارمة على بعض المنشآت العسكرية الإيرانية.
وردّ محمد باقر نوباخت، المتحدث باسم الحكومة الإيرانية، على المسؤولة الأميركية بأن “المواقع العسكرية الإيرانية غير مسموح بدخولها… كل المعلومات المتعلقة بهذه المواقع سرية”. وأضاف “إيران لن تسمح قط بمثل هذه الزيارات. لا تهتموا بمثل هذه التصريحات فهي مجرد حلم”.
وسبق أن تقدمت الوكالة الدولية للطاقة الذرية، قبل الوصول إلى الاتفاق النووي، بطلبات عديدة لإيران من أجل السماح لمفتشيها بدخول بعض منشآتها العسكرية، مثل موقع بارشين، الذي اشتبهت القوى الدولية والوكالة، بداية من عام 2004، في أن إيران قد تكون أجرت بحوثا ترتبط ببرنامج نووي عسكري داخله، قبل أن تسلم الأخيرة عينات منه إلى الوكالة خلال زيارة مديرها العام يوكيا أمانو للموقع في 20 سبتمبر 2015.
يطرح هذا الخلاف المتجدد ثلاث دلالات رئيسية:
◄ إيران لا تستطيع الانخراط في التزامات دولية صارمة، وهي تبحث دائما عن “ثغرات” في الاتفاق تتيح لها الالتفاف على بنوده، وهو ما يكشفه إصرارها في المفاوضات الخاصة به على وضع إجراءات شديدة التعقيد للتفتيش تستغرق مدة لا تقل عن 24 يوما وتعرقل إمكانية قيام الوكالة بإجراء عمليات تفتيش دقيقة في حالة ما إذا ثارت شكوك حول بعض المنشآت.
◄ الولايات المتحدة تسعى إلى البحث عن مبررات يمكن أن تستند إليها لاتخاذ خطوات أكثر شدة في التعامل مع الاتفاق النووي الذي تعتبر أنه “أسوأ صفقة في التاريخ” ولا تستبعد احتمال الانسحاب منه في النهاية، في ظل إدراكها أنه لا يمنع إيران، إذا كانت لديها رغبة، من محاولة الوصول إلى مرحلة إنتاج القنبلة النووية.
وهنا، فإن واشنطن ترى أن رفض طهران طلبات الدخول لبعض منشآتها العسكرية، التي تعتبرها “خطا أحمر” حسب وصف المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، يمكن أن يوفر فرصة لتدشين حملة دولية جديدة تهدف إلى إقناع القوى المعنية بالاتفاق النووي بأن إيران غير جادة في تبديد شكوك الوكالة الدولية حول بعض أنشطتها المرتبطة ببرنامجها النووي.
كما أنها تعتبر أن هذا الرفض يعني أن إيران لديها ما تحاول إخفاءه عن أعين مفتشي الوكالة، وهو ما حرصت نيكي هايلي على الإشارة إليه بقولها “إذا كان الإيرانيون يعلنون أن لا شيء يخفونه فلماذا لا يسمحون للوكالة بالذهاب إلى هناك؟”.
|
◄العبارات الفضفاضة والصيغ التي تحمل أكثر من معنى في الاتفاق هي التي تسببت في استمرار تلك المشكلات دون أن تتمكن القوى المعنية بالاتفاق من تسويتها، على غرار ما يحدث أيضا في ملف الصواريخ الباليستية.
إذ تصر إيران على مواصلة إجراء تجارب لإطلاق هذه الصواريخ، وآخرها صاروخ سيمرغ القادر على حمل أقمار صناعية، في 27 يوليو 2017، بحجة أن صواريخها غير مصممة لحمل أسلحة نووية، وهو النوع الذي طالب قرار مجلس الأمن رقم 2231 إيران بعدم إجراء أنشطة تطوير خاصة به.
وهنا، فإنه لا يمكن إعفاء بعض الأطراف المعنية بالاتفاق، مثل إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، من المسؤولية عن ذلك، باعتبار أنها تغاضت عن بعض العبارات التي يمكن تفسيرها على أكثر من وجه، من أجل دعم فرص الوصول إلى صفقة نووية مع إيران، والترويج لها باعتبارها إنجازا يحسب للإدارة قبل انتهاء ولايتها.
ورغم أن رفض إيران تفتيش منشآتها العسكرية يثبت أنها غير جادة في التعاون بشفافية مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية والقوى التي تفاوضت معها، إلا أن ذلك لا يعني أن مهمة إدارة الرئيس دونالد ترامب في استغلال ذلك لاتخاذ خطوات أقوى قد تؤدي إلى عرقلة استمرار العمل بالاتفاق وتحميل إيران المسؤولية عن ذلك سوف تكون سهلة.
إذ أن الإدارة سوف تواجه عقبتين في هذا السياق.تتمثل العقبة الأولى في أنه من الصعوبة إقناع مجمل القوى الدولية المعنية بالاتفاق بتبني الموقف المتشدد نفسه تجاه إيران والاتفاق، خاصة بعد أن أعلنت الإدارة نفسها، في 18 يوليو 2017، أن إيران ملتزمة ببنوده رغم تأكيدها على أنها “تخل بروحه”. ومن دون شك، فإن ذلك سوف يضع عقبات عديدة أمام أي توجه أميركي محتمل، في المستقبل، لإعادة تكوين الحشد الدولي السابق الذي استطاعت واشنطن من خلاله استصدار قرارات دولية من داخل مجلس الأمن بفرض عقوبات على إيران بحجة عدم التزامها ببنود الاتفاق.
وتتمثل العقبة الثانية في أن إجراء عمليات تفتيش داخل المنشآت العسكرية، في حالة قبول إيران بذلك، يمكن أن يكون مغامرة غير محسوبة، إذ أن عدم خروج تلك العمليات بنتائج تثبت انتهاك إيران للاتفاق سوف يفرض تداعيات سلبية على موقف الوكالة الدولية، التي سوف تواجه صعوبات عديدة في حالة ما إذا طلبت مجددا إجراء عمليات تفتيش أخرى.
إيران تسعى إلى إلقاء الكرة في الملعب الأميركي وتوجيه رسالة بأن الإجراءات التصعيدية التي تتخذها واشنطن قد تؤدي في النهاية إلى تجميد العمل بالاتفاق وعودة الأزمة إلى مربعها الأول من جديد
وبالطبع، فإن ذلك سيعزز من موقف إيران ويضعف إلى حد كبير من مصداقية أي شكوك قد تطرحها الولايات المتحدة في المستقبل إزاء التزامها بالاتفاق وتعاونها مع الوكالة.
بدأت إيران فعلا في شن حملة مضادة للرد على التوجه الأميركي الجديد، وذلك لحرصها على إثبات رغبتها في العمل بالاتفاق وتفويت الفرصة على واشنطن لتحميلها المسؤولية عن أي انهيار محتمل قد يتعرض له. إلى جانب الرسالة التي وجهها وزير الخارجية محمد جواد ظريف إلى المدير العام للوكالة يوكيا أمانو، في 23 أغسطس، واعتبر فيها أن زيارة نيكي هايلي سوف تفرض تداعيات سلبية على الاتفاق، أشارت طهران إلى أن ظريف قد يطلب عقد اجتماع لوزراء خارجية الدول التي توصلت إلى الاتفاق، أي إيران ومجموعة 5+1، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر القادم.
وهنا، فإن إيران ستسعى إلى إلقاء الكرة في الملعب الأميركي وتوجيه رسالة بأن الإجراءات التصعيدية التي تتخذها واشنطن قد تؤدي في النهاية إلى تجميد العمل بالاتفاق وعودة الأزمة إلى مربعها الأول من جديد.
وحرصت إيران مؤخرا على الإشارة إلى هذا الاحتمال أكثر من مرة، كان آخرها تحذير علي أكبر صالحي، في 22 أغسطس، من إمكانية اتجاهها إلى رفع مستوى عمليات تخصيب اليورانيوم إلى 20 بالمئة في غضون خمسة أيام، بكل ما يفرضه ذلك من عواقب وخيمة يبدو أن الاتفاق النووي لم يعد بعيدا عنها.