أزمة الرئيس المصري مع مواطنيه

الرجل الذي هتف بحياته المصريون كثيرا ومنحوه أكبر تفويض يمكن أن يحصل عليه رئيس دولة أصبح مسؤولا عن الأزمة وكل تداعياتها المريرة التي وضعت البلاد في مأزق غاية في الصعوبة.
الجمعة 2023/05/12
العلاقة بين الرئيس ومواطنيه تمضي في حقل مليء بالألغام يحتاج إلى تنقيته سريعا

تكمن أزمة كل رئيس مصري مع مواطنيه في أنه أول من يتحمل أي أزمات تمر بها الدولة، وعليه أن يحقق لهم كل ما يطمحون إليه من حياة رغدة ومرتبات عالية وأسعار متدنية للسلع والخدمات وبنية أساسية متينة، وبالطبع الهدوء والأمن والاستقرار، باختصار عدم الاستعداد لتحمل تكاليف باهظة لأي خلل في المنظومة العامة.

لا يعرف المصريون في حياتهم سوى رئيس الدولة، فهو عنوانها والمنوط به حل المشكلات وتجاوز الأزمات، ربما تكون هذه صفات توجد في شعوب أخرى، لكنها أكثر انتشارا بمصر، كأن الحاكم والمحكومين وقعوا عقدا اجتماعيا، وهو ما حدث مع رؤساء سابقين، بدءا من جمال عبدالناصر إلى حسني مبارك، مرورا بأنور السادات.

تتفاوت المسؤولية والعلاقة بين كل منهما والمواطنين، وتتأرجح أدوار رئيس الحكومة والوزراء، والثابت فيها أن الرئيس هو المسؤول الأول والأخير أمام الشعب، وتزداد هذه المسؤولية في حالات الانكسارات والهزائم والأزمات، وهو أمر طبيعي في النظام الأبوي الذي تعيشه مصر منذ عقود طويلة، ولا تريد أن تتخلى عنه على الرغم من التطورات التي حدثت في العالم وأرخت بظلالها على مصر.

◙ الرئيس السيسي يحدوه أمل في تصحيح الأوضاع وهو على اقتناع بأن الله لن يترك مصر تعاني كثيرا وسينقذها في الوقت المناسب، والعالم لن يتحمل الروافد الناجمة عن انهيارها إقليميا ودوليا

لا يختلف وضع الرئيس المصري الحالي عبدالفتاح السيسي عن سابقيه في هذه المسألة وربما يزداد موقفه صعوبة لأنه كان بالنسبة إلى الكثيرين الملهم والضرورة والقادر على إحداث نقلة نوعية في حياة شعبه، وتوثقت الطموحات مع خطاب مثالي طرحه في بداية حكمه عندما أراد زرع الأمل في نفوس مواطنيه وتحفيزهم وكرر أن مصر “سوف تصبح أد (ما يساوي) الدنيا”، في إشارة على الثقة بالمستقبل.

يبدو وضع الرئيس السيسي وضعا تقليديا تكرر مرارا في المنطقة والعالم، فالتركيز على الزعيم مفيد دون نسبة كل المحاسن والإنجازات له، فالدول جميعها معرضة لدورات صعود وهبوط سياسية واقتصادية، وإذا اعتاد الناس على نسبة كل شيء للقائد في أوقات الذروة الإيجابية سيحملونه إياها عندما تذهب الأمور إلى القاع، لذلك فالتشاركية في المسؤولية والأضواء عملية مهمة.

تعززت الثقة بالسيسي مع التطورات الملموسة على مستوى الأمن والتخلص من كابوس الإرهاب، وتشييد بنية تحتية قوية، وتسكين غالبية التوترات الداخلية وفرملة التهديدات الخارجية، ثم تغيرت الأوضاع مع تصاعد حدة الأزمة الاقتصادية وتراكم الديون وارتفاع التضخم وانخفاض قيمة الجنيه، وكل التوابع التي خلفها ذلك.

أصبح الرجل الذي هتف بحياته المصريون كثيرا ومنحوه أكبر تفويض يمكن أن يحصل عليه رئيس دولة مسؤولا عن هذه الأزمة وكل تداعياتها المريرة التي وضعت البلاد في مأزق غاية في الصعوبة، عليه أن يتحمل كافة النتائج التالية، ويجد حلولا سريعة أو يترجل ويترك السلطة لأحد غيره قد يستطيع إنقاذ ما يمكن إنقاذه.

ليس هذا مجال الحديث عن إعادة ترشح السيسي في الانتخابات المنتظر أن تجرى منتصف العام المقبل أم لا أو ترجله الآن، غير أن الحصيلة التي وصلت إليها الأوضاع العامة تميل إلى تحميل الرئيس وحده المسؤولية، بعيدا عن أي مؤثرات خارجية.

◙ أزمة المصريين مع رئيسهم (أي رئيس) تبقى مستمرة طالما أن العلاقة تسير على منوال لم يتغير منذ حوالي سبعين عاما، وعلى كل طرف ألا يكل أو يمل من نظرة الآخر

فلا أحد يعترف بأن هناك حكومة ووزراء ومسؤولين وبرلمانا وإعلاما يتشاركون معه، ولا أحد يقتنع بأن الأعوام الثلاثة الماضية كانت قاسية، حيث اجتاح فيها فايروس كورونا العالم ودمر جزءا كبيرا من اقتصاد الكثير من الدول، واندلعت الحرب الروسية – الأوكرانية وروافدها التي أثرت على اقتصادات دول متباينة.

تأتي تنحية العوامل الداخلية والتطورات الخارجية المفاجئة وعدم الاعتداد بها في ذهن المصريين من أن الرئيس صمم على أن يتصدر المشهد العام لوحده، فكل الكيانات والمؤسسات المشاركة في صناعة القرار وفقا للدستور غالبية أدوارها بدت شبه مجمدة إلا نادرا، وحرص دائما على مخاطبة شعبه بمفرده والحديث في كل كبيرة وصغيرة، ما ضاعف من شغف المواطنين وتعلقهم به في الضراء قبل السراء.

كان يمكنه أن يتحلل من هذه المسؤولية ويقوم بتوزيعها على الجهات المختصة، غير أن تكوينه العسكري الصارم لم يسعفه في الأخذ بهذه الفضيلة، ربما ثقة بقدراته أنه يستطيع العبور بالدولة إلى بر الأمان، ووفقا لما توافر له من تقديرات لم تتوافر أدلة عملية على صحتها ولم تحسب جيدا حساب التطورات الطارئة في العالم.

كان يمكنه أيضا مصارحة شعبه بما آلت إليه الأمور، والحديث مباشرة عن تحمله المسؤولية وأنه ينوي تركها لغيره أو يعتزم على القيام بإصلاحات هيكلية في الاقتصاد والسياسة والإعلام.. بما يعيد تصويب الأمور وتجاوز هذه المرحلة الصعبة.

بدا عدم القيام بهذا أو ذاك، قناعة بأنه يحدوه أمل في تصحيح الأوضاع من دون أن يقدم أدلة أو أسانيد واضحة للمواطنين، فالرئيس السيسي، كما قال الطبيب والسياسي المصري محمد أبوالغاز، على اقتناع بأن الله لن يترك مصر تعاني كثيرا وسينقذها في الوقت المناسب، والعالم لن يتحمل الروافد الناجمة عن انهيارها إقليميا ودوليا.

◙ المصريون لا يعرفون في حياتهم سوى رئيس الدولة، فهو عنوانها والمنوط به حل المشكلات وتجاوز الأزمات، ربما تكون هذه صفات توجد في شعوب أخرى، لكنها أكثر انتشارا بمصر

يكرس هذا التوجه الضغوط الشعبية على الرئيس، ويؤكد أن الناس معذورون في تعلقهم به كشخص عليه أن يجد حلا لما تعانيه البلاد من أزمات، وتحمّل ما ينجم عنها من نتائج، فقد قبل طوعا أو كرها أن يتصدى لمسؤولية كبيرة.

تظل المعضلة أن الأوضاع داخل مصر وخارجها لن تساعده كثيرا على إيجاد حل منتج خلال فترة قصيرة، تمتد من الآن إلى موعد إجراء الانتخابات الرئاسية إذا أراد الترشح فيها والحصول على ولاية جديدة في انتخابات تمتاز بدرجة عالية من الشفافية.

تبقى أزمة المصريين مع رئيسهم (أي رئيس) مستمرة طالما أن العلاقة تسير على منوال لم يتغير منذ حوالي سبعين عاما، وعلى كل طرف ألا يكل أو يمل من نظرة الآخر، فكما يحمل المواطنون الرئيس المسؤولية عما تواجهه مصر من تحديات، هو أيضا دائما ما يضع على عاتقهم جزءا كبيرا من كل أزمة عميقة تمر بها البلاد.

يتكاثر المصريون بما يفوق الطاقة الاستيعابية للدولة ويتصرفون في حياتهم الاقتصادية والاجتماعية بطريقة خاطئة تضاعف من الأزمات، ولا يحسنون التصرف في قضايا سياسية وملفات متعلقة بالأمن القومي وعليهم دعم تصورات الرئيس.

تمضي العلاقة بين الجانبين في حقل مليء بالألغام يحتاج إلى تنقيته سريعا كي يستطيع كل طرف رسم خارطة محددة لدوره ووضع معادلة لهندسة العلاقة بينهما بدلا من السريالية التي تهيمن على رؤية كليهما إلى الآخر، والتي لن تفضي إلى حلول للأزمات، وتستمر المسؤولية تائهة، فمهما تعاظمت مهام الرئيس وزادت أدواره هناك دوائر تشاركه تحمل المهام القومية يجب أن يعرفها المصريون وعليهم محاسبتها أيضا.

8