أزمة التحالفات السياسية في السودان

الكثير من الأحزاب والحركات المسلحة ترى في التحالفات مجرد أداة مرحلية للوصول إلى السلطة، وليست وسيلة لتوحيد الجهود من أجل بناء السودان.
الجمعة 2025/02/14
مشهد تهيمن عليه المصالح الضيقة

تعاني التحالفات السياسية السودانية من هشاشة عميقة، حيث لم ينجُ أي تحالف معارض أو حاكم من الانقسامات التي تؤدي في نهاية المطاف إلى إضعاف المشروع السياسي الذي يحمله. يمكن القول إن هذا التفتت يعود إلى خلل بنيوي في تركيبة الأحزاب نفسها، حيث تتشكل معظمها من تيارات متصارعة وأجندات متباينة، وهو ما ينطبق أيضًا على الحركات المسلحة. وليس تحالف “تقدم” سوى المثال الأحدث لهذه الظاهرة، إذ شهد صراعات داخلية، خاصة في ظل الموقف الحاسم تجاه الحرب، وظهور تيار يدعم تكوين حكومة في مناطق سيطرة الدعم السريع.

نحن أمام مشهد سياسي مأزوم، تهيمن عليه المصالح الضيقة بدلًا من الالتزام بمشروع وطني جامع. يظهر من خلال التجربة أن بعض القوى السياسية تنظر إلى التحالفات على أنها مجرد وسيلة للوصول إلى السلطة، وليست لبناء وطن متماسك قادر على تجاوز أزماته المتراكمة. لكن وسط هذه الفوضى، تبقى ثورة ديسمبر 2018 بمبادئها وقيمها حاضرة، إذ تتجلى انتصاراتها في كل موقف يعيد الفرز داخل المشهد السياسي، ويكشف عن الأطراف المستعدة للمضي قدمًا في مشروع وطني، مقابل أولئك الذين يسعون إلى إعادة إنتاج الفشل.

◄ ثورة ديسمبر تحتاج إلى خطاب سياسي حديث يعتمد على الوضوح والشفافية، بعيدًا عن المزايدات السياسية والشعارات الفارغة، بحيث يكون قادرًا على استقطاب قطاعات واسعة من المجتمع

لا تزال معظم الأحزاب السياسية السودانية تعاني من الانقسامات الداخلية، حيث يتشكل كل حزب تقريبًا من تيارات متباينة الأيديولوجيات والمصالح. لم تستطع الأحزاب التقليدية، مثل الأمة والاتحادي الديمقراطي، تحقيق قدر من الوحدة الحقيقية، بل تحولت إلى كيانات تتصارع داخلها الأجنحة المتنافسة. أما الأحزاب اليسارية والقوى الثورية، فقد واجهت بدورها معضلة الانقسامات الفكرية والتنظيمية.

الكثير من الأحزاب والحركات المسلحة ترى في التحالفات مجرد أداة مرحلية للوصول إلى السلطة، وليس كوسيلة لتوحيد الجهود من أجل بناء السودان. وبالتالي، تصبح هذه التحالفات مجرد تجمّع هش، ينهار بمجرد ظهور خلافات حول توزيع المكاسب. ومن أكبر مشكلات التحالفات السياسية السودانية أنها لا تبني برامج سياسية واضحة، بل تعتمد على التفاهمات اللحظية التي تنهار عند أول اختبار جاد. إن غياب ميثاق واضح يحكم العلاقة بين المكونات المختلفة يجعل أي تحالف معرضًا للتآكل السريع.

لا يمكن إغفال دور التدخلات الإقليمية والدولية في التأثير على استقرار التحالفات السودانية، حيث تسعى بعض القوى الإقليمية لدعم تيارات معينة داخل التحالفات السياسية، مما يؤدي إلى حدوث تباينات حادة في التوجهات. وتعد هذه التدخلات عاملاً أساسيًا في تفتيت أي تحالف سياسي، إذ إنها تُستخدم لتعزيز نفوذ أطراف محددة على حساب الآخرين، ما يؤدي إلى تفاقم حالة عدم الاستقرار داخل المشهد السياسي.

يعد تحالف “تقدم” أحدث النماذج على أزمة التحالفات السودانية. فمنذ تأسيسه، واجه خلافات جوهرية، خاصة حول موقفه من الحرب. في البداية، تبنّى التحالف موقفًا حاسمًا في رفض الحرب، لكن سرعان ما ظهر تيار داخله يساند تكوين حكومة في مناطق سيطرة الدعم السريع، مما أدى إلى صراع داخلي كشف عن الانقسامات العميقة في صفوفه. كان من المتوقع أن يضع تحالف “تقدم” موقفًا ثابتًا تجاه الحرب، إلا أن التباينات الداخلية أدت إلى تصدع التحالف. بعض القوى داخله رأت أن الوضع يفرض اتخاذ موقف عملي بقبول فكرة الحكم في مناطق سيطرة الدعم السريع، بينما اعتبرت أطراف أخرى أن ذلك يمثل تماهياً مع قوة عسكرية لا تختلف عن الإسلاميين في تهديدها لاستقرار البلاد.

يمكن النظر إلى انقسام “تقدم” بوصفه جزءًا من عملية الفرز السياسي التي تشهدها الساحة السودانية، حيث يتم التمييز بين القوى التي تلتزم بمبادئ ثورة ديسمبر، وتلك التي تسعى إلى تحقيق مكاسب مرحلية دون رؤية إستراتيجية. ويشكل انهيار “تقدم” فرصة لمراجعة أسس التحالفات السياسية في السودان، والعمل على تأسيس تحالفات أكثر متانة قائمة على برامج واضحة بدلًا من مجرد تفاهمات هشة.

◄ بعض القوى السياسية تنظر إلى التحالفات على أنها مجرد وسيلة للوصول إلى السلطة، وليست لبناء وطن متماسك قادر على تجاوز أزماته المتراكمة

في ظل هذا الواقع المتأزم، يبرز عدو واضح يتمثل في الحركة الإسلامية وأذرعها المختلفة التي تسعى لاستعادة السيطرة على السودان. هذه القوى لم تتوقف عن محاولات إجهاض أي مشروع مدني ديمقراطي، وهو ما يستدعي توحيد الجهود لمواجهتها. لا يمكن هزيمة الإسلاميين ما لم يتم التوافق على ميثاق وطني يستفيد من كل أخطاء الماضي، ويؤسس لمرحلة جديدة تحرر السودان من دوامة الفشل السياسي.

يجب تجاوز الأخطاء التقليدية التي وقعت فيها التحالفات السابقة، عبر إنشاء جبهة مدنية قوية تضم القوى الثورية والنقابية والمطلبية، بحيث تكون أكثر تجانسًا وأقل عرضة للانقسامات. وهناك العديد من النماذج العالمية التي يمكن الاستفادة منها، سواء في أوروبا الشرقية بعد سقوط الأنظمة الشمولية، أو في جنوب أفريقيا بعد نظام الفصل العنصري، حيث تم بناء تحالفات سياسية على أسس واضحة بعيدًا عن النزعات الانتهازية.

إذا أردنا أن تحقق ثورة ديسمبر أهدافها، فلا بد من التركيز على بناء قاعدة شعبية صلبة تستطيع الصمود أمام التحديات السياسية والعسكرية. يمثل تأسيس أجسام مطلبية مستقلة أحد أهم ركائز التغيير المستدام، حيث يمكن لهذه الكيانات أن تعبّر عن مصالح الفئات المختلفة، وتساهم في الضغط لتحقيق الإصلاحات المطلوبة.

أثبتت لجان الأحياء والمقاومة قدرتها على إحداث تغيير حقيقي، وبالتالي يجب تعزيز دورها وضمان استقلاليتها عن أي جهة سياسية تحاول توظيفها لمصالحها الضيقة. كما لعبت النقابات والاتحادات المهنية دورًا محوريًا في النضالات السابقة، ومن الضروري استعادة هذا الدور من خلال تكوين هياكل نقابية ديمقراطية قادرة على حماية الحقوق العمالية والمهنية.

تحتاج ثورة ديسمبر إلى خطاب سياسي حديث يعتمد على الوضوح والشفافية، بعيدًا عن المزايدات السياسية والشعارات الفارغة، بحيث يكون قادرًا على استقطاب قطاعات واسعة من المجتمع. يجب أن يكون الخطاب السياسي قائمًا على تقديم حلول واقعية بدلًا من التركيز على الخطابات العاطفية التي أثبتت عدم فاعليتها في إحداث تغيير حقيقي.

8