أزمة البحوث العلمية.. جدوى الاستخدام الرصين وجدل الأخطاء المربكة

تونس - تبرز أزمة الأخطاء في البحوث العلمية والدروس المقدمة للطلاب التي قد يعتمدها بعض المدرسين في مناهج التدريس من أكبر المساوئ التي ترافق العملية التعليمية سواء في المدارس أو كذلك في الجامعات. وأسهم تفشي هذه الظاهرة، إما بتقصير من صاحب البحث الذي لم يعمد إلى تصحيحه وإعادة إيداعه، وإما بتهاون بعض المؤسسات التعليمية في ضبط استراتيجيات لتصحيح وأرشفة البحوث التي يتم الاستناد إليها واعتمادها من قبل الطلاب والمدرسين، في تراجع مستوى بعض المدرّسين والطلاب وأثّر بصورة سلبية على تكوينهم وفهمهم العلمي.
ومن هذا المنطلق تبرز الجدلية في كيفية الحصول على المعلومة الصحيحة من مصدر موثوق، في مقابل الوقوف عند الأخطاء العلمية الكبيرة التي تتكرر ويردّدها الطلاب والمدرّسون أنفسهم لأنهم بكل بساطة أخذوها عن مصادر بحوث هي نفسها تحمل أخطاء.
والأمثلة عديدة ومقاربات البحث فيها جدّ مفتوحة لجهة أهمية النقاش الذي تطرحه، ويكفي أحيانا أن تلقي نظرة على غلاف كتاب مدرسي أو حتى جامعي لتكتشف كمّا هائلا من الأخطاء، فيما الأخطاء في البحوث والمراجع المودعة بالخزائن شيء آخر لا يمكن تصوّره.
ومن هنا يأتي تأكيد خبراء التعليم على أنه يتوجب على القائمين على العملية التعليمية البحث عن طرق تكون أكثر فاعلية لمساعدة المدرّسين والطلاب على فهم الآثار المترتبة على البحوث الخاطئة، من أجل معالجتها وانتقاء ما يصلح الاستفادة منه في عملية التدريس.
وقال عمر بالهادي، البروفيسور في جامعة العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس لـ”العرب” هناك أخطاء عديدة في البحوث والتقارير والوثائق وهذا أمر عادي. منها ما هو ناجم عن جهلها ومنها ما هو مبني على الثقة العمياء أحيانا في الأعمال العلمية الأخرى، وفي كل الحالات تكون هذه الأخطاء نتيجة لعدم التثبت وقلة الدراية والاطلاع.
|
وأضاف بالهادي أن “دور الأعمال اللاحقة أن تقوم بتصحيح هذه الأخطاء وليس هناك شك في أن لهذه الأخطاء آثارا سلبية على المبتدئين خاصة والذين يعتقدون أنها قرآن منزّل لا يمكن الشك فيها بما أنه قام بها المختص الفلاني أو العالم في حد ذاته. وهذا ينسحب على الرسائل والكتب والمقالات”.
وركزت العديد من المدارس والجامعات في مختلف أنحاء العالم خلال السنوات الماضية أكثر على استخدام البحوث وبخاصة المتعلقة منها بطرق تدريس الطلاب والآثار المترتبة على التدريس الفعال. ومن الأسباب التي جعلت المدرّسين بحاجة إلى المزيد من البحوث هو الرد على الكثير من المعلومات المضلّلة التي تعترضهم ويتساءلون حولها باستمرار دون أن يتوصلوا إلى حلول.
وكجزء من هذا الدور تتيح بعض المدارس الثانوية في بريطانيا مثلا نشرة إخبارية لتلخيص مجموعة من البحوث التربوية ومناقشة تطبيقها في الفصول الدراسية، كما تدير تدريبا داخليا اختياريا مع إتاحة الفرصة للمدرسين للقيام بأبحاثهم الخاصة بشأن التدريس الفعّال، وهذا ما شجّع العديد من المدرّسين على الانخراط في أبحاث الآخرين والتفكير في ممارساتهم الخاصة.
وفي أكاديمية سانت ليونارد في شرق ساسكس جنوب إنكلترا، يركّز المدرّس كريس دين على استراتيجيات فعالة للمساعدة في تنشيط الذاكرة ومشاركة هذا النهج مع الطلاب، حيث يتم تشجيعهم على استخدام تقنيات تستند إلى الممارسة المتباعدة والترميز المزدوج، وتعتمد هذه التقنيات على أكثر من مجرد إعادة للقراءة وتسليط الضوء على الملاحظات.
وفي تونس تضع وزارة التربية على موقعها الرسمي خدمة تسمح بتواصل الأساتذة في ما بينهم وتبادل الأفكار حول الفروض والمناهج المعتمدة في تقديم الدروس، لكن ما يلفت الانتباه، بحسب المدرّسين أنفسهم، أن زملاءهم يستغلون ما يطرحه بعضهم من دروس ونماذج لامتحانات ويقدمونها للطلاب كما هي دون مراجعة أو تصحيح للأخطاء أو تغيير حتى، وهو ما استدعى من الوزارة التفكير في إعادة مراجعة كيفية الدخول لهذا الموقع والعمل على صيانته من التلاعب والسرقة.
ويقول الأستاذ حسين اليعقوبي، مدرّس اللغة العربية بالمعهد الثانوي بمحافظة القيروان، إنه تفاجأ بزميل له يقدّم امتحانا للطلاب خلال امتحانات السداسي الأخير من العام 2015 نسخة طبقا للأصل من الامتحان الذي كان قد قدّمه هو للطلاب في العام 2014.
وعن أزمة البحوث المنقولة أو “المسروقة” يقول العديد من طلاب الدكتوراه بأن الظاهرة فاقت حدّا لا يمكن تخيّله في العديد من التخصصات العلمية في تونس، حيث تتفاجأ العديد من اللجان المشرفة على مناقشة البحوث العلمية بفقرات وأحيانا بفصول كاملة لأعمال سابقة يتم توظيفها دون أن ترفق أسماء أصحابها في الهوامش، فيما الأخطاء المسرّبة بين هذه البحوث العلمية لا يمكن قياس معدلها.
وسعت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي خلال السنوات الماضية إلى إدخال برمجيات ذكية تقوم بعملية مسح للرسائل المقدمة للمناقشة قبل طباعتها في نسختها الأخيرة المُودعة، لكشف مستوى الاعتماد على البحوث أو ما يعبّر عنه بـ”الانتحال”، لكن دون فائدة.
وبسؤاله عن الحلول الممكنة لمعالجة هذه الظاهرة التي أضحت في تفاقم مستمر وأثّرت سلبا على تراجع مستوى الطلاب والأساتذة، يقول بالهادي لـ”العرب”، “الحل الوحيد هو وضع كل معلومة أو فكرة على محك الشك ومحاولة التثبت منها مهما كان مصدرها”.
عندما يتم إعطاء البحوث المفيدة للمدرّسين، فإنها عادة ما تكون قائمة على الاستراتيجيات المنفصلة عن المنطق الأصلي
ويقول مدرّسون في بريطانيا إنه حتى عندما نتشكك في نهج تدريسي ما بأنه غير صحيح، فإنه يمكنه الاستمرار في التأثير على كيفية عملنا. ويقدّم هؤلاء مثالا على ذلك من خلال الهرم التعليمي الذي يقوم على مخروط “إدغار ديل” للخبرة، وهو الإطار النظري الذي لم يشر إلى التعلّم ولكن سرعان ما جعل له شكله الخاص كهرم تعليمي. ومعظم المدرّسين مُنحوا معلومات على أساس هذا العمل.
وقد نشأت البعض من هذه المشكلات لأن البحث في الكثير من الأحيان يبدو أنه كان يقدّم إلى المدرّسين وليس بالتفاعل المباشر معهم. وكما أشار كارل هندريك وروبن ماكفرسون، “لقد أعطي المدرّسون إجابات عن الأسئلة التي لم يطرحونها وحلولا للمشكلات التي لم تكن موجودة أصلا”. ويقول أكاديميون إنه عندما يتم إعطاء البحوث المفيدة للمدرّسين، فإنها عادة ما تكون قائمة على الاستراتيجيات المنفصلة عن المنطق الأصلي. ولكن السؤال الأهم هو هل هذا يعني أننا يجب أن نتخلى عن البحوث العلمية؟ ربما يكون هذا مغريا، وفق ما يذهب إليه توم شيرينغتون مدير مدرسة سابق، حيث يقول إنه “من المهم تطوير فهم البحوث العلمية ونطاقها وقيودها. هناك رسائل قوية تخرج من التعقيد”.
ولكن كيف يمكن للمدارس والمدرّسين العثور على البحوث التي لها صلة بعملهم وتحديد ما هو جدير بالتطبيق فعليا؟ ويأتي أحد الحلول الشائعة بصورة متزايدة بأن تولّي المدارس وخصوصا الجامعات أهمية أكثر للاستثمار في القيادة البحثية. ويقول خبراء إن المدرّسين يحتاجون ليكونوا على علم بالبحوث رغم الضغط الذي يسببه عبء العمل عليهم وضرورة تتبع كل شيء، فيما يقدّم آخرون حلولا يستندون فيها إلى مرشدين بحثيين يكونون معيّنين ويتولّون مهمة تصنيف ومراجعة ما هو موجود ويتقاسمون الأدلة الأكثر قوة مع المدرّسين، وهو ما من شأنه أن يجنّب ازدواجية الجهود ويحسّن مستوى المدرسين وتعلّم الطالب في آن واحد.