أردوغان يغذي الصراع الليبي ويتجاهل ارتداداته

يواصل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان انخراطه في حروب وصراعات ويقوم بتحرشات إقليمية دون أن يحقق انتصارا حاسما، ويصر على مواصلة هذا الطريق بعيدا عن انعكاساته المادية والمعنوية على شعبه الذي تعالت أصواته لرفض مغامراته في ليبيا، والتي يمكن أن تتحول إلى مستنقع يكبّدُ الدولة خسائر باهظة قد تستمر معها لعقود طويلة.
كم من الوقت استغرقته الدول التي غزا قادتها دولا أخرى خلال الحقبة الاستعمارية لمحو جرائمها، وكيف ارتدّت تبعات هذه الجرائم على أجيال كل ذنبها أنها انتمت إلى دول حكمها ساسة وجنرالات متغطرسون، خاضوا معارك وأشعلوا أخرى، ومنحوا النزاعات وقودا وفيرا؟
كان حكم التاريخ رحيما أحيانا على هؤلاء، لأنهم تماشوا مع طبيعة مرحلة عرفت القوة كسبيل وحيد للهيمنة، ولم تكن هناك قوانين كافية للردع والمحاسبة، وتصادمت الطموحات والمشروعات فأدت إلى سباق محموم للسيطرة على مناطق النفوذ، واستخدمت أدوات غير أخلاقية لم تترك لأصحابها درجة للتعاطف معهم من قبل الشعوب المُعتدى عليها.
انتهت هذه المرحلة بكل طقوسها وشرورها، وبقيت حالات استعمار نادرة حتى الآن لا يستطيع أحد التفاخر بها أو الدفاع عنها، لأن هناك أنظمة للمحاسبة حتى ولو لم يتم تفعيلها أو خضعت لحسابات دقيقة ومعقدة، تجعل سيف العقاب مرفوعا في وجه دول وراقدا مع أخرى.
لم ترحم هذه المعطيات الولايات المتحدة كأكبر دولة انخرطت في عديد من الصراعات حول العالم، من أن تلقى لوما سياسيا جارفا على هذه التصرفات التي أنفقت فيها تريليونات من الدولارات في العقدين الأخيرين، بينما لم تخض الصين حربا واحدة فحققت تقدما باهرا.
انجرف أردوغان وراء نزواته وأحلامه الأيديولوجية في المنطقة، وذهب بعيدا من أجل إثبات أنه سلطان قادر على إعادة سيرة أجداده الملطخة بدماء الشعوب العربية، لم ينتبه الرجل للفروق الجوهرية في الأزمنة والأمكنة والأجواء، ولم توقفه المطبات التي تعرض لها في العراق، والخسائر التي تكبدها في سوريا، حتى جاءت محطة ليبيا التي تقف شاهدة على حجم الغرور الذي انتاب رئيس تجاهل الجغرافيا السياسية وضوابطها.
تلعب أنقرة دوما على تناقضات فجة تعتمل في دول تشتبك معها، فلم تكن تدخلات جيشها في العراق سافرة عندما كانت تحكمه قيادة صارمة، ولم يلجأ أردوغان إلى نشر قواته في سوريا وقت أن كانت قيادتها متماسكة، فقط استغل الترهل الذي أصابها وتعدد اللاعبين على أرضها ودفع بقواته وحوارييه من المتطرفين والإرهابيين، وكذلك يفعل في ليبيا.
انخرطت تركيا في حروب عدة، وأخفقت في كسب أي منها أو تثبيت قواعدها الخلفية في إحدى الدول، ربما مهدت بعض القوى الطرق واستفادت منها، لكن وجودها يخضع للمسموح والممنوع والخطوط الحمر المرسومة التي لا تستطيع أنقرة تجاوزها، وإذا حدث وغرّها الفراغ السياسي والأمني على التقدم عادت إلى سيرتها الأولى. هي معادلة محكومة بأهداف تكتيكية تتطلب ازدواجية مؤقتة تتناسب مع حجم السيولة في التوازنات الدولية.
ما يعتبره البعض بمثابة تواطؤ أو تحالف روسي وأميركي مع تركيا في كل من سوريا وليبيا، يمكن أن ينقلب إلى فخ. فالفضاء الذي يسبح فيه أردوغان ويغريه على قطع مسافات كبيرة فيه يتم تحديد معالمه سلفا، وهو ما أغفلته تركيا في البلدين وجعلها تقع في أخطاء قاتلة، فالدور الذي تقوم به يحتمل الوفاق والصدام معا، ولأنها تفقد البوصلة أحيانا فلن تتمكن من التفرقة الدقيقة بينهما، حتى وقعت في خلافات مع كل من موسكو وواشنطن، رممت بعضها وظلت شبحا قابلا للانفجار.
يحرص أردوغان على تذويب الهوة مع كل منهما، حتى لو أبدى غير ذلك، فبعد تصعيد لافت للنظر يحرص على إتقانه يعود وينحني ويرضخ لسقف مرتفع من المطالب، وتأتي تصرفات مريبة لكل من روسيا والولايات المتحدة لتعزز فرضية التفاهم على قواعد اللعبة فتتمكن تركيا من مواصلة دورها على مسرحي سوريا وليبيا.
جرى الحديث كثيرا عن مفردات اللعبة وأصولها في سوريا، وهناك فصول لم تتكشف بعد فيها، لكنها في ليبيا تبدو مختلفة، من حيث المكونات والأهداف والمصالح والتهديدات، ناهيك عن الجغرافيا التي يجب الانتباه إلى أهميتها، كعنصر حاسم في تحديد المدى الذي يمكن أن تصل إليه تصورات أنقرة.
حقق فريق أردوغان في ليبيا، المكوّن من حكومة الوفاق في طرابلس ومرتزقة ومتطرفين وإرهابيين وميليشيات مسلحة، تقدما مؤقتا في الغرب الشهر الماضي، ما لبث أن تحول إلى كابوس الآن، بعد أن نجح الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر في ترتيب أوراقه العسكرية بدقة، وقام باستدارة يمكن أن تدفع أنقرة تكاليفها، فقد اعتقدت أن مسرح العمليات مهيّأ أمامها، وتمادت في دفع معداتها وعناصرها عن طريق البحر والجو والبر.
قلب الدور التركي الكثير من التوازنات الهشة في ليبيا، وكاد يرجح كفة فريق على آخر، ومكنّه التفوق الذي أحرزه فريقه في الغرب من خلال غياب الأطر الدولية الحاكمة للأزمة من زيادة سرعة الدعم دون أن يعبأ بخروقات نوعية، متصورا أن انشغال الدول الإقليمية الرئيسية بمكافحة فايروس كورونا أو حذرها سيمكنه من تكريس وجوده.
تضع مصر ليبيا ضمن قمة أولوياتها في الدفاع عن أمنها القومي، وتعلن قيادتها على الدوام أنها تقف في صف الجيش الليبي وقائده المشير خليفة حفتر، وترى ضرورة ملحة في كسر شوكة الإرهابيين، وتشير من وقت لآخر، إلى أنها مع الحلول السياسية للأزمة، لكن ذلك لا يعني انتفاء الخيارات العسكرية مطلقا إذا وجدت تركيا أو غيرها تهدد مصالحها.
تعلم القاهرة أن تمكن أنقرة من التمركز العسكري في الفناء الخلفي الليبي يخرق أحد أهم الثوابت الإستراتيجية في المنطقة المتعلقة بالتهديد المباشر، ويحمل معه تجاعيد حادة في المستقبل، ولذلك لن تسمح بهذا الخرق بأي حال من الأحوال، فالأهداف التي أخفقت تركيا في تحقيقها بالأساليب السياسية عبر احتضان القوى الإسلاموية تريد تحقيقها بالأدوات العسكرية. وهذه أشد خطورة على ليبيا ومصر والمنطقة برمتها.
تعلم القيادة المصرية جيدا أن ليبيا بالنسبة لتركيا وسيلة وليست غاية تنطلق منها إلى دول الجوار، شرقا وغربا وجنوبا. الأمر الذي يصعب التهاون معه، لأن المشكلة لم تعد في نقل متشددين مؤدلجين ومرتزقة، فهؤلاء واجهة فقط، لكنها تخص مصير منطقة برمتها، من يتمكن من تحديد خطوطها ورسم خارطتها يستطيع السيطرة عليها. ووجود نفوذ لأنقرة في دولة رخوة مثل ليبيا يندرج ضمن المعادلة الصفرية، بمعنى لابد أن تتفوق دولة على أخرى بالضربة القاضية، بعد أن فقدت سياسة تسجيل النقاط مفعولها.
تدير القاهرة أزماتها بقدر عال من الحكمة والتريث، وهي الطريقة التي مكنتها من تخطي جبال من المشكلات في الداخل والخارج خلال السنوات السبع الماضية، والقيادة التي تمكنت من تحويل الاستهداف لها إلى تحالف مع بعض القوى ليس من السهل خداعها والتسليم بوجود نفوذ لتركيا على مقربة من أبوابها الغربية، ما يشي بأن ليبيا سوف تكون هي المعركة الأشد حساسية التي تنتصر مصر الحديثة أو تنكسر فيها، ويتجاهل أردوغان ارتداداتها.