أردوغان.. عشيقة ترفض الزواج الإسرائيلي

“أميركاني” مفردة تكتسب دلالة مختلفة عن حروفها عندما تنطقها ألسنة المصريين، هي تعني مخادعا، زائفا، مضللا. دلالة ارتبطت في ذاكرة أجيال منهم بـ”فلاش” الكاميرا.. حين يضغط المصور على زره فتنطلق ومضاته لتغشي أبصار الأطفال والسذج، دون أن يلتقط صورة فعلا. هكذا هو رجب طيب أردوغان حين يتحدث عن فلسطين، وبدقة “غزة”، وحين يهاجم محتليها.
“عاصمة عبدالحميد”، مسلسل عثمانلي أنتجته منظومة “الطورانية” في أنقرة، ضمن محاولاتها غسل تاريخها الفعال في اغتصاب فلسطين. بدأ عرضه فبراير 2017، وبث الجزء الرابع منه في 20 سبتمبر الماضي، مروجا للسلطان عبدالحميد كمدافع أول عن عروبة فلسطين. بينما الوثائق العربية واليهودية والغربية توثق دعمه تسليم الأرض العربية التي يحتلها تحت لافتة “الخلافة”. ستجد نماذج منها في كتاب “دور السلطان عبدالحميد الثاني في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين”، الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية للمؤرخة الأردنية فدوى نصيرات.
رصدت فيه، كما قالت لرويترز في 13 يونيو 2014، نفس السياق. معارضة مظهرية بينما سياساته العملية تيسر قواعد تأسيس إسرائيل، موردة قائمة بـ19 مستعمرة والأراضي والبنوك والشركات اليهودية تحت رعاية “الخليفة”. عبدالحميد، الصديق المخلص وفق توصيف هرتزل، خامة استنسخ منها مسلسل أصدقاء إستراتيجيين، أحدث حلقاته أردوغان.
بموازاة عدوان العثمانلي على شمال سوريا، تباهت وسائل الإعلام التركية بسلاح “وطني” حديث سري، وألمح صحافيون وسياسيون أتراك إلى أنه “درون”، طائرة دون طيار متقدمة التقنية، وآخرون قالوا إنه صاروخ “دليلة”، جوال موجه جو-أرض وأرض-أرض، وهو طراز مطور من نظيره كروز الأميركي.
تباهي يلائم عقلية العثمانلي المتوارثة منذ اغتصبوا الأناضول من أهله قبل 1200 سنة، كما فعلوا مع كل الحضارات التي ابتليت باحتلالاتهم، لكنهم هذه المرة يتباهون بإنجازات صديق، مغتصب مثلهم. ليس سرا أن تحديثات الجيش التركي منذ تولي أردوغان الحكم صهيونية. والدرون محل التباهي، مثلا، هي ابنة صفقة بين الشركة التركية للصناعات الجوية والفضائية وبين نظيرتها “آلبت” الإسرائيلية. وتنقل رويترز عن الرئيس التنفيذي للأولى، محرم دورتكاسلي، 22 ديسمبر 2009، التوصل إلى تصنيع مشترك لـ”هيرون”، درة الطائرات الصهيونية دون طيار، التي دخل أحدث طراز منها “هيرون تي.بي” الخدمة يوم 3 يوليو الماضي، وفق بيان مصنعيها الحقيقيين.
تزامنا مع التباهي العثمانلي بـ”شعر تل أبيب”، قالت صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية، 17 أكتوبر الجاري، إن الدبابات التركية التي تغزو سوريا أميركية الصنع، طورتها الترسانة الصهيونية لصالح أنقرة بـ”عقد ضخم يبلغ مئات ملايين الدولارات”، أبرم بعد عام من وصول أردوغان للحكم.
العلاقات الإستراتيجية بين تركيا والدولة العبرية تجاوزت السبعين عاما، ومسلسلاتها تحتاج لأجزاء عدة، يهمنا منها ما يتعلق بالحكومة “الإسلامية”. عقب تولّي أردوغان الحكم عام 2002، ظل تعاون الحليفين عماده سلسلة اتفاقات وقعت بين عامي 1992 و1994، جزء منها أنجزته حكومة الرفاه بقيادة نجم الدين أربكان، أستاذ الإسلاميين. ولخمس سنوات واظب تلميذه، أردوغان، على ما سمي بالحوار الإستراتيجي بين أنقرة وتل أبيب، ومنه خرجت كومة اتفاقات نوعية في تاريخ تحالفهما، فبراير 2007، تلاها انقلاب حركة حماس الدموي في غزة، وتوجت في نوفمبر، بإلقاء شمعون بيريز، خطاباً بالعبرية في البرلمان التركي، هو الوحيد لقيادي إسرائيلي أمام برلمان غالبيته مسلمة. توزعت الاتفاقات بين عسكرية بما فيها تأسيس هيئة تصنيع مشتركة واقتصادية طالت كل المجالات.
عسكريا أفرزت خططا لتطوير أسلحة غالبيتها أميركية، تنتجها المنظومة الإسرائيلية، مع خط لدبابات الميركافا غرب تركيا. وتشمل طائرات مقاتلة قصفت بها تل أبيب غزة وسوريا ولبنان، وأنقرة العراق وسوريا. وقنابل عنقودية، تول TAL-1/2، ضرب بها الحليفان نفس المناطق. ودرون استخدمتها الأولى في نفس المناطق العربية الثلاث، وتركيا أضافت ليبيا لمجالها، ورصدت صحيفة معاريف يوم 9 أغسطس الماضي، إسقاط الجيش الوطني بقيادة خليفة حفتر لاثنتين منها.
وأجرى الطرفان تدريبات برية وبحرية مشتركة، القدس العربي في 29 أكتوبر2009، إحداها تحاكي غزو سوريا. وشارك خبراء صهاينة بغارات تركية على شمال العراق، كما نقلت الخليج الإماراتية 28 ديسمبر 2007، عن مصادر مخابراتية. لوجستيا، وكنماذج، في 6 سبتمبر 2007 عبرت مقاتلات إسرائيلية أجواء تركيا، حيث تزودت بوقود إضافي، لقصف موقع دير الزور السوري. وكررتها طائرتان صهيونيتان، جلف ستريم، في 17 مارس 2010، إلى المجر، وقالت صحيفة راديكال التركية أنهما توجهتا إلى بودابست للعودة بعناصر موساد اغتالت المجري من أصل سوري، بسام طراشي، إلى تل أبيب.
مع حادثة السفينة مرمرة، مايو 2010، خلال محاولتها المتاجرة بحصار غزة، تزايدت كثافة الدخان الأردوغاني وومضات فلاشاته. في إحداها قال مسؤول التصنيع العسكري التركي، مراد بيار، إن أنقرة لا تحتاج خبرات إسرائيل. لكن نيويورك تايمز في 3 يوليو 2010، تخترق الدخان مؤكدة “أن مختلف الأعمال قائمة دون تغيير”، واستشهدت بمسؤول إسرائيلي أكد أن “كل شيء يسير وفقا لجدول زمني، كالمعتاد”، و”يتدرب جنود أتراك، الآن، في صحراء النقب على طائرات درون”.
ورأت الصحيفة الأميركية أن العلاقات العسكرية “غير قابلة للانكسار لاعتماد تركيا على الدعم التقني الإسرائيلي، ولأن تل أبيب هي ثاني مصدر لسلاح أنقرة بعد واشنطن”. وأمدت إسرائيل تركيا بمنظومة متطورة للإنذار المبكر بين 2012 و2013، في خطوة وصفها الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، بالممتازة.
اقتصاديا، نكتفي بلقطات دالة موثقة، لا فلاشات. بعد عام من مرمرة، قفزت تركيا من تاسع المستوردين من تل أبيب إلى الثالثة، كما أورد بيان لوزارة الاقتصاد والصناعة العبرية، نقلته السفير اللبنانية في 1 يونيو 2011. وتضاعف عدد السياح الإسرائيليين، ليتجاوزوا 440 ألفا عام 2018، وتحدثت صحيفة ذي ماركر الاقتصادية الإسرائيلية، في 27 يناير 2019، عن “قطار جوي إسرائيلي إلى أنقرة”، وقال موقع المرصد العبري إن الخطوط التركية هي الشركة الأجنبية الأكثر عملًا في تل أبيب. وحسب وزارة الاقتصاد التركية تضاعف التبادل التجاري أربع مرات، من 1.4 مليار دولار عام 2002، إلى 5.8 مليار دولار عام 2014. وعام 2017 ارتفعت الصادرات التركية لإسرائيل بنسبة 20 بالمئة وواردتها منها بـ45 بالمئة.
وتكشف هيئة الطاقة التركية تصديرها إلى إسرائيل، خلال 2017، 8 آلاف و269 طنًا من وقود الطائرات المقاتلة، و11 ألفًا و37 طنًا من وقود النقل البحري، وفق صحيفة زمان بأنقرة. ولمعاريف، قال يسرائيل كاتس، وزير الاستخبارات الإسرائيلي، إن كيانه لا يأبه لعنتريات أردوغان، لأنها مررت عبر حيفا 25 بالمئة من صادرات تركيا إلى الخليج العربي. كاشفا في 8 أغسطس الماضي، وفق موقع “TurkishMinute”، أن عائلة أردوغان تكسب ملايين الدولارات من أعمالها في إسرائيل.
ردا على تفاجؤ البعض بخطابه العبري في البرلمان التركي، اعتبر بيريز أن أنقرة عشيقة تفضل العلاقة الملتبسة عن الزواج بإسرائيل. ويطالبنا عزمي بشارة في الأخبار اللبنانية، 29 يونيو 2010، بألا “نفرض على تركيا تصورّنا لها، وتركها تدير صراعاتها كما ترى، وأن نقدم المشورة حين تطلب منا، وأن نعبّر عن العرفان حتى حين لا يُطلب”. وتنقل السفير، 13 سبتمبر 2011، عن وثيقة أميركية، طمأنة داوود أوغلو لإيهود باراك، يناير 2010، بأن “تعاظم ثقة العرب بأردوغان، ستمكنه من صفقة سلام نهائية”.
معلومات أكثر متاحة، لمن يريد تفادي الفلاشات الأميركاني، فالهدف كما كشف صائب عريقات، أمين سر منظمة التحرير الفلسطينية، للأخبار اللبنانية 6 يناير 2009، تسلم السلطان أردوغان الملف الفلسطيني من مصر، كما طلب صراحة من أبومازن، ليستنسخ ما فعله جده عبدالحميد، راعي قواعد بناء إسرائيل.