أردوغان إلى الآن

الاثنين 2015/12/14

إلى الآن، لا يزال أردوغان الرّجل الأقوى في تركيا، لقد أزاح الكثير من العقبات عن طريقه نحو الأفق الذي بدأت تنكشف بعض مظاهره الآن، ونجح بعد كفاح شرس في أن يصبح الشخص الأقوى بلا منازع وحتى إشعار آخر. وبصرف النظر عن تراجع مستوى الحريات في تركيا، وغموض الأجندة في سوريا والعراق، والعلاقات التجارية تحت الطاولة وفوق الطاولة مع إسرائيل، مشفوعة ببعض الثرثرة حول غزة، والتي تدغدغ مشاعر الغوغاء دون أن تقول شيئا عن المطلوب، الحل العادل والشامل للقضية الفلسطينية وإنهاء التقسيم وعودة اللاجئين، رغم كل هذا فقد أصبح الرّجل أيقونة أمام جمهور عربي متعطش لنماذج أبوية تمنحه الشعور الوهمي بالحماية النفسية، ضمن من يمكنني أن أصطلح عليهم باسم عرب أردوغان.

كان دخول أردوغان إلى المعترك السياسي في تركيا قبل سنوات خلت بمثابة فأل خير على الاقتصاد التركي الذي استفاد من سياسة “صفر مشاكل” مع كافة الدول، ضمنها دول الخليج، وإسرائيل وروسيا ومصر وسوريا، بل الجميع بلا استثناء. وكما قال فولتير ذات يوم، حين يتعلق الأمر بالمال يصبح الناس كلهم على دين واحد. وقد كان أردوغان، ولا يزال، رجل مال بامتياز. ثم حملت بداية عهده أملا كبيرا في انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي وفق المعايير المطلوبة وكان هذا الأمل عامل جذب للاستثمار. وحمل صعوده فرصة سانحة لاختبار إمكانية ترويض سائر الإسلاميين ضمن المحيط الإقليمي لغاية القبول ببعض مقتضيات الحداثة السياسية، ولو في حدودها الدنيا. ولأجل تحقيق هذه الغاية التي راهن عليها الكثيرون، أطلق العالم العنان لأردوغان فبسط نفوذه في الداخل والخارج. لكن ربما للانتصارات “المندفعة” كلفة سياسية وأخلاقية في الحساب الأخير، بدعوى الحد من هيمنة المؤسسة العسكرية على الحياة السياسية، وكان هذا مطلبا أميركيا وهدفا أوروبيا، استطاع أردوغان التحكم في كل خيوط المخابرات التركية، والتحكم في مفاصل القضاء، وأن يضع الكثير من ضباط الجيش في السجن، وحتى داخل حزبه “العدالة والتنمية” نجح في التخلص من كل الذين زاحموه في طموحه، وهو الآن يحاول تركيز صلاحيات واسعة بين يديه كرئيس للدولة من خلال تعديل الدستور، بل لعله أصبح قادرا منذ الآن على تجاوز صلاحياته والتدخل في أعمال الحكومة بدعوى أنه ليس “رئيسا يوقع على الأوراق وحسب”، كما يحب أن يردد على الدوام.

أردوغان أصبح الرجل الأقوى في تركيا اليوم، وذلك بعد أن انقلب على أقرب أقربائه، أصبح ثاني أقوى شخصية تركية في العصر الحديث بعد كمال أتاتورك، وهذا ليس بالإنجاز السهل بالنسبة إلى رجل كان يحب في بداية مساره السياسي أن يصنف نفسه ضمن يمين الوسط على الطريقة الألمانية، ولا أحد يعرف أين يصنف نفسه الآن. لكن ماذا بعد؟ هذا هو السؤال؛ سؤال المآل.

أردوغان لا يزال الرجل الأقوى لكنه خسر أهم أوراقه في حرب شرسة استعمل فيها كل الأسلحة القذرة والضربات فوق الحزام وتحت الحزام. انطلق أردوغان من سياسة صفر مشاكل، وكان هذا مجدا عظيما له، لحزبه ولبلده، لكنه سرعان ما وصل في الأخير إلى سياسة مئة في المئة مشاكل مع الجميع. ركب موجة صعود البورجوازية الأناضولية لكنه تسبّب في انحسارها وتهديد أرباحها؛ ركب موجة ما كان يسمى بـ”الثورة السورية” لكنه ساهم في تحويلها إلى حرب أهلية لا أول لها ولا آخر، وفي الأخير جراء تهوره الاستعراضي في إسقاط المقاتلة الروسية فقد خسر المجال الجوي في سوريا كلها، وعلى الأرض خسر الكثير، ولن يعوضه التدخل العسكري في العراق شيئا. لا شك أن طول الأمد في السلطة يفسد الملائكة فما بالك بالإنسان؟ هذا درس أدركته الحضارة المعاصرة فأبدعت جرّاءه إجراءات عملية للحد من تسلط السلطة: فصل السلط، حرية الإعلام، قوة المجتمع المدني، الانتخابات في دورتين، عدم الترشح لأكثر من ولايتين، إلخ.

في طريقه إلى المجد السلطاني ذبح أردوغان آباءه (على طريقة سلاطين آل عثمان) وسحق عظام معظم الأصدقاء: بدءا من آبائه في الداخل (الأب السياسي نجم الدين أربكان؛ الأب الروحي فتح الله غولن؛ والحلفاء الراسخون ضد “الفاشية” الأتاتوركية، على رأسهم أكراد تركيا)، وانتهاء بأصدقائه في الخارج (الأسد كصديق شخصي؛ بوتين كحليف اقتصادي. ليس هذا فحسب، بل تنكر أردوغان للجميع، تنكر لليساريين الذين ساندوه على أمل تقليص هيمنة الجيش، تنكر للأكراد الذين راهنوا عليه قصد التخفيف من الاضطهاد القومي، تنكر للمتصوفة الذين ظنوه فرصة لاستعادة الأبعاد الروحية لتركيا، بل تنكر لنفسه حين نصح إسلاميي مصر بتبني العلمانية لكنه لم يتورع عن استعمال دواعش الداخل التركي لإضعاف العلمانية.

أردوغان تدحرج بسرعة قياسية من العلمنة إلى الأخونة إلى الدعشنة. صحيح أنه لا يزال يمثل الرجل الأقوى في تركيا، ولا شك أنه يطمح للمزيد من القوة، فليس يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. لكن الحقيقة الأخرى أن لكل أجل كتابا. لقد بدأ السلطان يدمر نفسه بنفسه مدفوعا بأوهام ساهمت في نسجها بعض الدوائر الإعلامية العربية. بدأ يدمر نفسه تدريجيا، ويجب على الآخرين أن يحسنوا التصرّف حتى لا يتركوه يدمر معه كل شيء. فأعراض جنون العظمة أصبحت بادية. إنه فخ السلطة حين يطول المقام ويحلو المدام. لكنه درس منسي من دروس الحداثة السياسية: قوة السلطة في قوة السلطة المضادة أيضا.

كاتب مغربي

9